15 سبتمبر 2025
تسجيلتُعَد الطبقة الوسطى بمثابة الرافعة الأساسية، لقيام النهضة في المجتمع، كونها تعبر عن طموحات القاعدة العريضة من أبنائه، فهي تحمل الطموح الذي يدفع إلى العمل، لتحقيق المزيد من التقدم، من أجل تلبية تطلعات أبنائها بارتقاء درجات السلم الاجتماعي، وتتسم الطبقة الوسطى بالقدرات المادية المتوسطة التي تحفِّزها على الإبداع، بعكس الطبقة العليا، التي تفتقر إلى الطموح بسبب شعورها بالغِنى، الذي قد يكون طاغياً، في مقابل غرق الطبقة السفلى في الفقر الذي غالباً ما يكون منسياً. تمثِّل الطبقة الوسطى الركيزة الأساسية في صناعة المستقبل، وهي موطن الاعتدال والإبداع في المجتمع، كما أنها صمام أمان استقراره، وفتيل تفجيره في الوقت نفسه، فكلما اتسعت كلما استقر المجتمع، وفي المقابل هي التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب، عندما ترى خطراً يهدد وجودها، إلى جانب اضطلاعها بالدور الأكبر في تحقيق الديمقراطية، فهي التي تقود حركة المجتمع نحو الحقوق والحريات، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وفي الحالة المصرية، أطلق الراحل أحمد بهاء الدين على الطبقة الوسطى تعبيراً بليغاً، حينما وصفها بأنها "حاملة مشاعل النهضة" دلالة على دورها الكبير في صناعة التاريخ المصري. دور تاريخي كبير فقد لعبت الطبقة الوسطى دوراً كبيراً في مسيرة الحركة الوطنية المصرية، في الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ومثَّلت المعين الأساسي، والقاعدة الرئيسية، لكل التيارات الفكرية والسياسية، التي شكلت الجماعة الوطنية المصرية. ففي الجانب السياسي أفرزت الطبقة الوسطى تحالف الضباط والمثقفين الذي قاد الثورة العرابية، وبعدها قدّمت الحقوقيين والمثقفين والطلبة، الذين مهّدوا لقيام ثورة 1919 وحملوا لواءها عند اندلاعها، بالإضافة إلى إرسائهم لدعائم الحقبة شبه الليبرالية ممثَّلة في أحزابها السياسية. وسبّب انصراف أبناء الطبقة الوسطى عن أحزاب الحقبة شبه الليبرالية في نهاية الأربعينيات - عند شعورهم بضعف تمثيلهم في المواقع القيادية فيها- أزمة للحقبة بأكملها، أفضت إلى قيام ثورة يوليو 1952 والتي انتمى غالبية أعضاء تنظيم "الضباط الأحرار" فيها إلى الطبقة الوسطى. وفي ثورة 25 يناير 2011 كان شباب الطبقة الوسطى، من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، هم "الطليعة الثورية" التي أشعلت شرارة الثورة، وسرعان ما التف الشعب حولها، في مشهد تاريخي بديع. وفي الجانب الثقافي، قامت الحركة الثقافية المصرية على أكتاف أبناء الطبقة الوسطى، الذين عملوا بمجال الصحافة والنشر، منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذين أثروا الحياة الثقافية المصرية، وقدموا للمكتبة العربية العديد من الكتب والمؤلفات ذات الثقل الكبير، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، كما أنشأت الطبقة الوسطى الجامعة المصرية عام 1908. واقتصاديا، أنشأت الطبقة الوسطى بنك مصر، وصناعاته، وطالبت بحماية الصناعة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين. وفي المجال الاجتماعي، أسهمت الطبقة الوسطى في بناء القطاع الأهلي، والمجتمع المدني، من خلال الجمعيات الأهلية، كما كانت النقابات المهنية ساحة لنضال الطبقة الوسطى، والقيام بدور وطني، فضلاً عن إرساء قواعد الممارسة المهنية، والدفاع عن حقوق أعضائها. عيْبٌ خَلقي ولقد قضى الدور الكبير والرئيسي الذي لعبته الدولة في مصر-على حساب حركة المجتمع- على فرصة الطبقة الوسطى في "النمو الطبيعي"، ومنذ نشأتها وطوال تاريخها، تمثّلت نقطة الضعف التاريخية للطبقة الوسطى في تبعيتها الكاملة للدولة، ونزعتها الإذعانية تجاهها. فتعاني الطبقة الوسطى من "عيب خلقي" تمثّل في كونها، ولدت بالأساس نتيجة قرارات سلطوية، وإجراءات فوقية، واعتمدت في نموها وانتشارها بالدرجة الأولى، على السياسات الاقتصادية للدولة التي تعهدتها بالرعاية، وهو الأمر الذي جعل مكاسبها لا تقف على أرضية صلبة، وأن تكون رهينة بيد الدولة، لتذروها العواصف السياسية عندما ترفع الدولة يدها عنها. فلم تلد الطبقة الوسطى نتيجة صراع مع السلطة، ولم تدخل في اشتباك مع الدولة، بهدف الدفاع عن مصالحها، أو المطالبة بحقوقها، ولهذا حمل "العقل الجمعي" لها روح الولاء للدولة، وهو ما أورثها نزعة استسلامية تجاهها، جعلتها في حالة "قناعة دائمة" لما تجود به عليها. وهنا يتضح الفارق بين الطبقة الوسطى المصرية - من حيث ظروف النشأة - ونظيرتها الأوروبية، فقد شقّت الثانية طريقها بنفسها، ودافعت عن مصالحها بيدها، ولم تنتظر منحة أو هبة من الدولة، فسارت علاقتها بالدولة في الاتجاهين، ضغطا من الطبقة الوسطى بهدف الدفاع عن مصالحها وحقوقها، قابله استجابة من الدولة بإصدار تشريعات تلبّي مطالب الطبقة الوسطى، التي فرضت نفسها حتى وصلت إلى سدة السلطة فيما بعد، بعكس ما حدث في مصر، حيث كانت علاقة الطبقة الوسطى بالدولة علاقة أحادية الاتجاه، لعبت فيها الدولة الدور الأكبر.. وأحيانا لعبت الدوريْن معاً"دور الدولة، ودور الطبقة".