15 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما تكون المفاهيم عاملاً في التوتر والأحكام المسبقة

26 يناير 2014

على الرغم من الاختلاف الدقيق بين مصطلح " الأصولية" الغربي، والأصولية وفق المفهوم الإسلامي، إلا أن الفكر الغربي ظل حبيس ذاته التاريخية، ومأزق صراعه الطويل مع الكنيسة والأصولية المسيحية، وهذه النظرة الخاصة التي يحاول الغرب أن يعممها على الإسلام، ومطابقة ما فعلته الكنيسة مع السلطة المدنية في الغرب، وهذه تنقصها المصداقية والواقع، ذلك أن " الأصولية" في المفهوم الإسلامي تناقض مفهوم هذا التعريف في الغرب، ويدرك الكثير من المفكرين الغربيين، اختلاف هذه المفاهيم، لكنهم يتجاوزونها لأسباب كثيرة منها العداء المستحكم، والنظرة السطحية المقلوبة التي غذاها الاستشراق في حقب مختلفة، وأخيراً الأطروحات الجديدة التي تدّعي أن الإسلام هو العدو الجديد بعد سقوط الشيوعية، ولعل ما كتبه برناردلويس، صمويل هنتنغتون في هذا الصدد يغني عن الكثير من الالتباسات.من هذه المنطلقات يتحمل الغرب مسؤولية كبيرة في تكريس مصطلح "الأصولية الإسلامية" ومطابقتها للأصولية الكنسية في القرن الثامن عشر، وهذا ما عبر عنه المستشرق الهولندي "رودلف بيترز" عندما قال: "إن نقد صحافتنا أمر واجب لأنها تمضي بعيداً في تسويق مفهوم خاطئ وهي تعيد ما قامت به أثناء الحرب الباردة من حماسة زائدة ضد العدو المفترض، وهي تتعاطى مع خبر لأصولية باعتباره خبراً جذاباً للقارئ، لأنها من ناحية تتبنى العنف والإرهاب ومن ناحية تختلف عن الواقع الغربي وتتصارع معه، ويمكن أن تكون نيات الصحفيين طيبة(!!) لكن يجب أن لا ننسى المقربين من المؤسسات السياسية والحزبية التي لها مصلحة في التلاعب بالرأي العام وتوجيهه، وحتى الصحفي الموضوعي يواجه عوائق مهنية في تغطية الموضوع الإسلامي، فرؤساء التحرير يبحثون عن الخبر والحديث عن الإسلام المتنور أو المعتدل لا يعتبر خبراً ولا يجذب القارئ" !! وهذه من دون شك "قضية منهج" و"أزمة موضوعية"، تحدث في الغرب على رؤوس الأشهاد، ويجدر بالغرب وهو المتجذر بالديمقراطية والليبرالية أن يفسح للرؤية الهادئة والواقعية المدروسة في أية ظاهرة من الظواهر لأنه بلا جدال لكل ظاهرة إنسانية خلفيات وجذور وأسباب، ومن هنا يجب التعاطي معها باستقصاء وإلا أصبحت القضية برمتها مأزقاً قائماً ربما قد لا نعثر على سبل صحيحة لعلاج سلبياتها غير البارزة. وقد عبر عن هذا المأزق الموضوعي المنحسر في الغرب ـ كما يقول برهان غليون ـ المستشرق الفرنسي رودنسون في كتابه "سحر الإسلام"، وكيف أنه في القرن السابع عشر وبعده كان الإسلام يعتبر في الغرب رمز التسامح والعقل على النقيض من الدين المسيحي ومذاهبه المتعصبة للعقل، فقد أخذهم ما يؤكده من ضرورات التوازن بين حاجات العبادة وحاجات الحياة وبين المتطلبات الأخلاقية أو المعنوية وحاجات الجسد وبين احترام الفرد والتشديد على التضامن الاجتماعي، وكان التركيز كبيراً لدى المثقفين في مواجهة المسيحية على الدور التحضيري للإسلام وعلى عقلانية الاعتقادات النابغة منه.. فقط ـ كما يقول د.غليون ـ منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر بدأ الأوروبيون يعتبرون أن المسيحية هي سبب التقدم والنجاح في أوروبا، وأن الإسلام هو سبب العجز والتأخر في العالم العربي والإسلامي، وبعد أن كان الإسلام يستخدم كنموذج للدين العقلاني والحضاري في موجهة المسيحية " المتعصبة والبربرية"، بدأت الآية تنعكس تماماً ليصبح الإسلام شيئاً فشيئاً مثالاً للبربرية التي تهدد الغرب.. لقد ترسخت القناعة بأن أوروبا هي قاعدة الحضارة وأن كل ما يقف في وجه أوروبا فهو معادٍ للحضارة، وكأن الإسلام كثقافة ومدنية ومجتمع هو العقبة الرئيسية إن لم تكن الوحيدة التي تحول دون امتداد التوسع الغربي في اتجاه الجنوب والقارات والحضارات القديمة، وكان لابد لهم من أيديولوجية تؤجج العداء له وتبرر العدوان عليه في الوقت نفسه في نظر الأوروبيين أنفسهم ونظر العالم".ومن هذه الرؤية الجامدة نشأت "الأصولية العلمانية" في الغرب التي لا تقبل غير الرؤى المنطلقة منها، صحيح أن الغرب عندما انقلب على الكنيسة جردها من سلطاتها وأزاحها من مكانتها الكبيرة في المجتمع الغربي، لكنه لم يتنازل كلية عن طموحات هذه البابوية وذاكرة المركزية الأوروبية وأنها محور الإنسانية وتاريخها وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً وتأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محور "الأنا" الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً.. وهذه العقلية بقيت راسخة حتى بعد سقوط البابوية وتأسيس العلمانية، وسنكون مخطئين ـ كما يقول د. محمد عابد الجابري ـ إذا اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية والدينية وأنه الآن غرب علماني خالص عقلاني براجماتي، لا غير، سنكون مخطئين إذا نحن جردنا الغرب من ذاكرته الثقافية الدينية ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين في كل من أوروبا وأمريكا فهي تفعل ذلك بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين(..) .فليس من المصادفة البتة بل العكس، ومن باب الانسجام الفكري ـ كما يقول روجيه جارودي ـ في أن يكون أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا مؤسس المدرسة العلمانية "جول فري" هو نفسه المحرض على الغزو الاستعماري في مدغشقر وفي تونس والفيتنام.. هذا المفكر الواضح كان في فرنسا المنظر الأعنف للاستعمار مثلما كان في إنجلترا ستيورات ميل وهو تلميذ آخر من تلامذة وضعية "أوغست كونت".. ففي خطابه يوم 27 تموز يوليو 1885 أمام مجلس النواب أعلن: "أجل نحن نتبنى سياسة توسع استعماري قائمة على نظام وهذه السياسة الاستعمارية تقوم على ثلاثة قواعد "اقتصادية.. إنسانية.. سياسية".. وفي فقرة أخرى قال: "لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا هو من التاريخ إنه من الميتافيزيقيا السياسية.. أيها السادة لابد من القول بصوت أرفع وبحقيقة أكثر يجب القول بصراحة أن للأعراق العليا حقاً عملياً على الأعراق السفلى"؛ (كتاب الأصوليات المعاصرة).. هذه "العلمانية" الانتقائية أوجدت نزعة فلسفية تدعى المركزية "الكونية" واحتكار العلم والحضارة مع الإقصاء للآخر المختلف أو كما يسميها البروفسيور "روبرت سولمون"، "ثقافة الهيمنة"، وهذا ما حدا بالباحث الإنجليزي " ريتشارد ويبستر" يتساءل "هل هذه عملية ارتدادية لعصاب جماعي تحاول من خلالها ثقافة سلفت أن تحيا مرة أخرى لحظة من طفولتها؟ وهل هو أمر مختلف ربما تكون حال دعت العلمانية إلى إسقاط قناعها العقلاني من أجل أن تكشف في لحظة ما عن هويتها الحقيقية والتي هي في عمقها هوية دينية؟ويضيف ويبستر ـ "وإذا ما فهمنا تراثنا الديني على نحو أفضل فإننا سنبدأ بالشك في أن العلمانية بدلاً من أن تكون قد هزمت التراث المسيحي اليهودي فإنها عبرت عن تفوقه الكبير وما أريد افتراضه هو أنه إذا كانت القيم الدينية لا تلعب دوراً مهماً في المجتمع العلماني، فهذا لا يعني أنها تركت أو همّشت، وإنما دليل على مدى دخولها إلى داخل الفرد وإلى هويتنا العلمانية إلى الدرجة التي لا نحتاج معها إلى إظهارها في أي شكل خارجي"!!إذاً.. القضية أبعد من كونها نظرة سطحية ساذجة أو عاطفية عابرة لذلك فإن ازدواجية الطرح تجاه الإسلام له من الخلفيات ما يجعل المحلل أو الباحث يفقد معايير الدقة والمصداقية، ومنها موضوع "الأصولية"، ومع الاختلاف البين في المصطلح فإن الغرب لا يزال يصر على تسمية الإسلام وربطه " بالأصولية" وفق مفهوم المسيحي الكنسي في القرون الغابرة. "والأصولية في الإسلام".. تعني الالتزام بقواعد السلوك والقيم في عصره الأول, وكما عرفه السلف الصالح في الفقه والاجتهاد ومقاصد التشريع.. إلخ، لكن الأصولية في الغرب هي النظرة المتزمتة التي تحارب العلم والاختراع والعصرنة وهذا ما ينكره الإسلام.. أما موضوع العنف والتطرف والإرهاب الذي يجتاح عصرنا الراهن فإن المؤثرين في صناعة القرار في الغرب يحاولون أن يلصقوا هذه الظاهرة بــــ " أصل الإسلام"، وطبيعته الكامنة فيه، وهذا غير صحيح, فالإسلام وأصوله التشريعية ترفض مبدأ العنف وتنكر الإرهاب والتطرف مهما كانت أسبابه، وقد لا نتجاوز القول إن جزءا من ظاهرة العنف والإرهاب ترجع إلى ما اقترفه الغرب ومظالمه وازدواجية معاييره إذا ما أردنا الدقة والموضوعية.. لذلك، فإن الأولوية في القضاء على هذه الظاهرة هي العدل في الأحكام على الأشياء والظواهر من دون محاباة أو كراهية مصداقاً لقوله تعالى في كتابه العزيز: "لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " صدق الله العظيم"، وبغيرها سيكون العلاج كمن يقاتل طواحين الهواء مثلما فعلها "دون كشوت".