12 سبتمبر 2025

تسجيل

تضامن.. وإن كنت وحيدا!

25 ديسمبر 2023

يباغتنا سؤال الجدوى دائما ونحن في خضم محاولاتنا الفردية في نصرة أي قضية عامة نؤمن بها. ما جدوى ما نفعله نحن الذين لا نملك شيئا سوى كلماتنا وآرائنا وأصواتنا الضعيفة التي لا يسمعها أحد وإن سمعها فلن يهتم بها؟ نضعف أحيانا أمام هذا السؤال فنتراخى ونكاد نتوقف عن محاولاتنا لولا إشارات يلوح لنا بها القدر أحيانا لمصدر للالهام ووقود للاستمرار. في لحظة من لحظات الضعف التي كدت أن أستسلم فيها لليأس أمام سؤال الجدوى مما نكتبه عما يحدث في غزة منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر، لفت انتباهي مقطع من المقاطع الكثيرة التي تزدحم بها وسائل التواصل الاجتماعي لاعتصامات ومظاهرات ومسيرات تضامن مع اهل غزة في مدن عالمية كثيرة؛ مشهد امرأة بريطانية تبلغ من العمر 87 عامًا، كما كتب في الخبر المرفق مع المقطع المصور، تقف بمفردها أمام فرع لأحد المطاعم العالمية الشهيرة الداعمة للكيان الصهيوني، حاملة لافتة تعبر فيها عن تضامنها مع أهل غزة في أجواء لندن المثلجة. فكرت بتلك المرأة البريطانية التي نجت من الدعاية الغربية ضد السردية الفلسطينية واكتشفت كما يبدو أنها، بوجودها الإنساني الراهن، شاهدة على جرائم دولة الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني. لكن ما الذي دفع تلك المرأة المسنة لاتخاذ مثل هذا الموقف؟ هل تعتقد أن وقوفها، بمفردها، في الشارع، سيغير وجهة نظر المسؤولين في بلدها بشأن القضية التي تؤمن بها؟ هل تظن أن لافتتها يمكن أن تحدث فارقًا لدى من يقرأها من المارة؟ هل ترى أن هناك جدوى بخروجها من بيتها الدافئ لتتضامن من شعب بعيد عنها جغرافياً وثقافياً ودينياً رغم أنها ليست مسؤولة بكيانها الفردي أدنى مسؤولية عما يحدث له؟ لا شك في أن التضامن مع الآخر في محنته قوة تنبع من التعاطف والرحمة والإيمان القوي بالعدالة. وعندما نقرر أن نتضامن مع أحد ما في أي قضية من القضايا، فإننا نؤكد على إيماننا الإنساني المشترك بالحق وبأهمية مساندة الآخر عندما يحرم من أي حق من حقوقه. وتصرف المرأة البريطانية هو شهادة على روح الفرد العنيدة القادرة على أن تتخذ موقفًا بناءً على مبادئها بغض النظر عن الصعوبات المتوقعة أو عن جدوى الموقف في ظل النتائج المحتملة له! وعلى الرغم من أنه قد يكون من الصعب قياس الأثر الفوري لمثل هذا التصرف، إلا أنه مهم على أكثر من صعيد لعل آخرها الصعيد المباشر في نصرة القضية الفلسطينية بمستواها الإنساني ومساندة أهلها في غزة. فهو أولاً وعلى سبيل المثال سيبدو كمصدر إلهام للآخرين الذين قد يشاركون تلك السيدة في الإيمان نفسه بأهمية مساندة أهل غزة والظلم الواقع عليهم من قبل الكيان الصهيوني، ولكنهم ترددوا في التعبير عنه لشعورهم، كل على حدة، أنهم لوحدهم وأن لا جدوى من تضامنهم الفردي بهذا الشكل، مما سيشجعهم على الخروج بالطريقة ذاتها أو بطريقة أخرى للتعبير عن المبدأ ذاته! كما أن هذا النوع من التضامن يمكن أن يكون له تأثير حقيقي، رغم فرديته وأحيانا بسببها، على الرأي العام، فصورة امرأة مسنة تقف وحيدة، ثابتة في معتقداتها لنصرة قضية بعيدة لابد أنها ستفتح حوارات متنوعة حول الأمر كله، خاصة وأنها ستبدو صورة مثالية لصناعة الإعلام بكل أشكاله، وهذا هو نفسه ما جعل اللقطة أكثر انتشارا من لقطات كثيرة لمظاهرات جماعية خرجت لنفس الهدف! وعلى الرغم من أن تصرف فرد واحد قد لا يؤدي بمفرده إلى تغيير جذري، إلا أنه يسهم في رسم الطريق لذلك التغيير. فمن خلال الجهود التكاملية للأفراد، سواء كانوا يعملون بمفردهم أو في مجموعات صغيرة، يتم غالبًا بدء التغيير الحقيقي. والتاريخ أظهر لنا أن الحركات الاجتماعية غالبًا ما تنشأ من شجاعة وعزيمة عدد قليل من الأفراد الذين يرفضون قبول الوضع الحالي. إنه إذن أثر الفراشة الذي لا يرى ولا يزول، وهو على الأقل الوسيلة الوحيدة لإقناعنا بعدم الاستسلام لسؤال الجدوى وإن كنا، كل على حدة، وحيدين!