21 سبتمبر 2025
تسجيليكثر الحديث عن الهوية وملامحها ومقوماتها وما تعنيه من التزام تجاه الذات والآخر، من خلال سياقها العام قوميا ودينيا ثم وطنيا، وأي هذه الأركان الثلاثة ترتكز عليها الهوية في تحديد ملامحها الكلية، بعد أن توزعت ملامحها الجزئية في اتجاهات تحكمها عوامل حياتية لا مفر من الخضوع لها لضمان حياة آمنة ومستقرة للفرد والجماعة، لكن يظل ارتباط الهوية بالذات هو العذاب الأزلي للإنسان، الذي تحدد انتماءه وفق معطيات معينة محكومة بظروفه الخاصة، فهو لا يملك حق تحديد هويته، لأنه ولد في مجتمع حدد له مسبقا عوامل هذا الانتماء، وحرمه من أمور خاصة ربما لو أتيحت له فرصة اختيارها لتغير مجرى حياته. والهوية عندما تنتفي معها شروط الاختيار.. تضع الذات في مأزق الانسياق وراء ما هو كائن ومستقر، ليبدأ الصراع الخفي أو المعلن، وهو وصراع أشبه بالعذاب لأنه يصطدم بواقع ليس للإنسان القدرة على الخلاص من جوهره أو تغير مساره، وإن استطاع فذلك يقتصر على الظروف المعيشية وليس على تغيير الهوية الضاربة جذورها في عمق الموروث الأخلاقي والديني والبيولوجي، حيث لا يمكن لهذا الإنسان تغيير جيناته الوراثية بكل ما فيها من حسنات وسيئات. قد يستطيع أن يطور ذاته علميا، ويحسن أوضاعه المعيشية عمليا، وربما يغير وطنه، ولكنه سيظل أسير هويته الأساس، فالهوية هنا شبه بالقيود الحديدية التي تشده لصخرة انتماء تم اختياره له قبل أن يرى النور، فإذا ما أدرك فيما بعد قسوة عجزه عن التخلي عن هذا الانتماء، فسيجد أن عذابه الحقيقي لا ينحصر في الآخر كما يقول بعضهم، بل ان عذابه الحقيقي ينحصر أكثر في الهوية التي لا يستطيع التمرد عليها، والتي تحكم ذاته من المهد إلى اللحد، ولعل الصرخة الأولى التي يطلقها الوليد عند خروجه من رحم أمه.. هي صرخة احتجاج على عجزه أن يكون كما يريد لا كما تريد البيئة التي يوجد فيها، والمقولة التي تؤكد ان الإنسان ابن بيئته، صحيحة، وهي تنفي أن يكون الإنسان ابن رغبته، لأنه في حقيقته يمثل العجز الحقيقي أمام ثوابت الطبيعة وأحكامها القسرية، حيث لا مجال للتمرد أو الخروج على الناموس العام المستقر في ضمير المجتمع، وإن حاول مجرد محاولة الخروج عن هذا السياق، فسوف لن يعرف مصدر الحجارة التي تأتيه من كل الجهات، لترميه بأقذع الألفاظ وأسوأ الصفات، وهو هنا لا يملك مفرا من عذاب الذات حين الخضوع للهوية، وغضب الآخر حين التمرد على تلك الهوية، مع أنه تمرد يائس، كما تخبرنا تجارب الإنسان على امتداد التاريخ، ومع ذلك فإن هذا العذاب يدفعه دائما لخوض مغامرة التمرد على الهوية، رغم معرفته المسبقة بالنتائج. روح المغامرة التي يملكها الإنسان لاكتشاف المجهول، بدأت في حقيقتها منذ محاولته اكتشاف ذاته التي ظلت حتى اليوم في بعض جوانبها لغزا عصيا على الحل، ومع مرور الزمن، ومع كل اكتشاف جديد، تتسع دائرة المجهول أمامه، فالعلم لا يزيده إلا جهلا بما لا يعلم، وكلما تعلم زادت أمامه الأشياء التي عليه أن يتعلمها، ليظل في هرولته الأبدية نحو المجهول، حتى وإن كان يملك هوية معروفة بالنسبة له ولغيره، ولكنها المعرفة التي تحرم الذات من فرص التمرد عليها والخروج منها، مما يفضي به إلى القلق والحيرة والعذاب، وعجز الإجابة عن أسئلة الوجود والعدم. لعل الشاعر العربي القديم قد ادرك هذا المأزق عندما قال: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها أن تحاول التمرد على الهوية.. فهذا هو العذاب الحقيقي للذات. [email protected]