14 سبتمبر 2025

تسجيل

قبرص تبحث عن حل مستحيل (4)

25 نوفمبر 2014

يمكن القول إن جزيرة قبرص ضحية الجغرافيا وصدام الحضارات، فهي تتمتع بموقع خطير يعتبر بوابة للمشرق العربي الإسلامي، كما يعتبر في نفس الوقت بوابة الشرق إلى الغرب، علاوة على تموضعها في البحر الأبيض المتوسط الذي تحول من "بحر الروم المسيحي" إلى بحيرة عربية إسلامية في وقت لاحق وعودته ثانية إلى أحضان الغرب بوصفه "بحيرة أوروبية".هذا الموقع الإستراتيجي جعل من جزيرة قبرص حدودا للتماس الحضاري أو "الاحتكاك الحضاري" بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، مما حول الجزيرة إلى أرض صراع دائم بين الطرفين، وهذا ما يجعل من التوصل إلى حل بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا.من الناحية العملية لا أستطيع إطلاقا أن أقول إن القسم الشمالي من الجزيرة، أو جمهورية قبرص التركية، هي أرض تسيطر عليها السمة الإسلامية، فمن مشاهداتي خلال تجوالي في شمال قبرص وتنقلي بين المدن المختلفة لفت انتباهي عدم وجود محجبات وقلة عدد المساجد وعدم وجود أي شيء يشير إلى إسلامية المكان، إلا بعض المآذن المتناثرة هنا وهناك، والتي رأيت في مدينة بلاكبيرن في بريطانيا أكثر منها بكثير، مما يجل منها أكثر إسلامية من جمهورية قبرص التركية من الناحية الشكلية على الأقل، وحين وجهت سؤالا لنائب رئيس جامعة الشرق الأوسط القبرصية عن هذه الظاهرة أجابني أنه يفضل أن يكون عدد المدارس أكثر من عدد المساجد، وهو الأمر الذي يعني أن الدين مسألة ثانوية في الحياة هناك، وحين سألت موظفة حكومية قبرصية عن عدم وجود محجبات استغربت من سؤالي واعتبرته غريبا وقالت لي بكل بساطة: لا حاجة لذلك، وغيرت الموضوع. بل لاحظت عن عدد الزي الرسمي لعدد من المدارس يتكون من تنانير قصيرة للفتيات.يمكن التأكيد أن الدين لدى القبارصة الأتراك لا يعلب أي دور في صراعهم مع القبارصة اليونانيين الذين تؤثر عليهم الكنيسة الأرثوذكسية تأثيرا كبيرا، بل لعبت دورا محوريا في إفشال جهود التسوية في الجزيرة، فقد تعهد رجل الدين الشهير مكاريوس رئيس وكبير أساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية وفي خطاب تنصيبه زعيما للكنيسة عام 1950 بأن يضع على رأس أولوياته مشروع الوحدة مع اليونان، وهو المشروع الذي فجر الأزمة في قبرص، وكان أول رئيس لقبرص المستقلة من عام 1955 وحتى وفاته عام 1977، في الجهة المقابلة كان الحالة العلمانية البعيدة عن الإسلام هي السائدة لدى القبارصة الأتراك، ولم يتم استخدام الدين في الصراع من قبل القبارصة الأتراك، وحل محله "القومية التركية" التي كانت في حالة صراع من الأرثوذكسية القبرصية اليونانية، حيث يختلط الدين بالقومية وبالصراع الحضاري، وحتى ببقايا الحملات الصليبية على العالم العربي والإسلامي.هذا الصراع القومي بين "الأتراك واليونانيين" هو الغالب على الوضع في الجزيرة، ويصنع زواياه الحادة وتشابكاته، ففي الوقت الذي يقف فيه "الغرب المسيحي" صفا واحدا خلف القبارصة اليونانيين لا يجد القبارصة الأتراك أي حلفاء عربا أو مسلمين باستثناء تركيا التي ينتمون إليها عرقيا أو حضاريا وتاريخيا، مما يترك القبارصة الأتراك "مكشوفين تماما" أمام خصومهم أو شركائهم في الجزيرة، الذي يتمتعون بالاعتراف الدولي والمكانة القانونية والدبلوماسية وعضوية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهذا ما يضيق من سبل التوصل إلى حل للانقسام الحاصل في قبرص.