16 سبتمبر 2025
تسجيلكنت في شتاء عام 1981 أرافق رئيس حكومة تونس طيب الذكر في زيارة رسمية إلى باريس ومن حسن حظي التقيت هناك بآخر القامات السياسية والفكرية الفرنسية وأنا المغرم بسماع من هو أكبر مني سنا وأوفر تجربة ومن بين هؤلاء رئيس الحكومة الفرنسية في الخمسينيات الذي ترك أثرا متميزا لأنه هو الذي سرع بتحقيق استقلال شعوب المغرب العربي بعد حروب تحريرية كانت أشدها عنفا حرب الجزائر وأقلها خسائر حركات تحرير المملكة المغربية والمملكة التونسية (قبل إعلان الجمهورية فيها سنة 1957) هذا الزعيم الفرنسي اسمه (بيار منديس فرانس) وهو الذي اشتهر بإلقاء خطابه الشهير المعادي للاستعمار بين أيدي آخر ملوك تونس رحمه الله محمد الأمين باشا باي معلنا بذلك موافقة الحكومة الفرنسية على منح الاستقلال الداخلي لتونس. كان لي مع هذا الرجل حديث شيق ومفيد في قاعات الاستقبال لأفخم فندق باريسي (لوكريون) المخصص لأكابر الشخصيات الضيفة وأذكر جيدا ما قاله لي (بيار منديس فرانس) وهو يستعيد ذكريات استقلال تونس على أيدي الزعيم الحبيب بورقيبة قال لي:"إن ما جعلنا نتعامل مع بورقيبة أكثر من سواه من الزعماء التونسيين هو اشتراكنا معه في التمسك بـ (الواقعية السياسية...التي نسميها البراغماتية) وهي كما حللناها في أعوام القطيعة والمقاومة صفة نبيلة ونادرة لأنها لا تلجأ للعواطف الجياشة والشعارات الشعبوية المنفصلة عن الواقع. وقال لي: " لن أنسى ما قاله لي الجنرال ديغول في عز أيام المقاومة للاحتلال النازي الألماني لفرنسا قال لي (ليس هناك سياسة حقيقية وناجعة خارج الواقع أو لا تقرأ حسابا للواقع لأنها سياسة تؤسس على أوهام الأيديولوجيا والمعتقدات الخاطئة وأنصاف الحقائق) وكلما أتأمل في التاريخ العربي الحديث أتأكد من صحة حكمة الجنرال ديغول وهو رجل مواقف وله مصداقية لأنه في عام 1942 حين كانت بلاده تحت الجزمة النازية الهتلرية وكان هو وزير دولة للدفاع في الحكومة قرر أن يهاجر سرا إلى لندن ويعلن بداية المقاومة من هناك واستقبله ونستن تشرشل بحذر ولكن الزعيم كان مؤمنا أن فرنسا التي احتلها الألمان بإمكانها أن تقاوم وبدأ يجمع حوله الفرنسيين الوطنيين منذ أذاعت له (البي بي سي نداءه الشهير باسم نداء 18 يونيه 42 وبالفعل تمكن هو ومن يسميهم (حفنة من المقاومين) من تنظيم أوسع حركات التحرير الى أن تكلل بالنصر عام 1944 ثم إن فرنسا كانت إستعمارية وواضعة شعوب المغرب الإسلامي تحت هيمنتها العسكرية والإدارية فجاء من رحم الأمة المغاربية رجال مثل الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف ومصالي الحاج وعبد الكريم الخطابي لينظموا بدورهم حركة تحرير شعوبهم من الاستعمار الرهيب وكان هؤلاء أقرب للمنهج العقلاني لأن الواقع صعب ومعقد ويستدعي استعمال العقل إلى جانب تعبئة الأمة بالعواطف الاسلامية والمشاعر الوطنية وانطلاقا من تحليل موضوعي لتوازن القوى بين الاستعمار والمقاومة استطاع هؤلاء الأبطال كسر شوكة المستعمر وفرض إرادة الاستقلال وانتصروا وتحررت شعوبهم. ثم إذا تأملنا في دول المشرق نجد أن العاطفة طغت على العقل في بعض حركات التحرير وإذا نجح الزعيم المصري جمال عبد الناصر في معالجة العدوان الثلاثي وآثاره على مصر عام 1956 فإنه لم يوفق في الشوط الثاني عام 1967 في التصدي للاحتلال الإسرائيلي الغاشم والمدعوم من كل قوى العرب حيث وقع عبد الناصر في فخ المخطط الرهيب وأغلق المضيقات واستعمل أدوات الإعلام الجياش ولم يتفطن إلى أن العدو بل الأعداء كانوا يريدون القضاء النهائي على القوة الجوية المصرية والعربية وكان لهم ذلك بسبب فقدان الوعي العربي للمقدرات الحقيقية للعدو وللعرب وهو النموذج الأقسى لغياب الاعتبار بالواقع كما أسلفنا وقس على هذا سلوك صدام حسين حين شن الحرب عام 1980 على إيران وحين غزا الكويت عام 1990 ومثله فعل العقيد معمر القذافي في غفلة من القوى المعادية لكل نفس تحرري عربي غير عقلاني ثم سلك علي عبد الله صالح نفس سبيل هؤلاء في اليمن بنوع من التخبط الاستراتيجي الخارج عن منطق الواقع ومستحقات الواقع. ولعلنا نحن العرب اليوم مطالبون من شعوبنا بالاعتبار بهذه الحقائق وانتهاج سياسات واقعية لا تفرط في الحقوق والثوابت ولكنها تتأقلم مع مستحقات الواقع وتراعي الحقائق في حسابات الربح والخسارة ولا يعتقد أحدنا أن دولته هي مجرد قمر صناعي يدور في فلك منعزل عن الدول الأخرى والقوى ذات المصالح المتشعبة والمطامع التوسعية لأن السياسة ليست مخاطبة الجماهير بما تحب وتنتظر لكن السياسة الحق مطالبة بالنتائج وتحقيق غايات مشروعة بأقل الخسائر والتكاليف. اليوم وفي ظل نظام عالمي جديد له نواميسه يواصل بعض العرب التغريد خارج التاريخ وتذكرت المفكر الأمريكي من أصول هندية مسلمة كاتب افتتاحيات (نيويورك تايمز) فريد زكرياء التقيت به و بزميله أشهر الصحفيين الأمريكان (توماس فريدمان) يوم قال لي ونحن نشارك في مؤتمر عالمي للديمقراطية و العولمة:" إن العرب استثناء في السياسة والحضارة فكلما اهتدى العالم إلى سبل اكتساح حريات شخصية أوسع (مثل حرية التعبير على وسائل الاتصال الاجتماعي و مثل الحق في بيئة نظيفة والحق في المشاركة في سن الخيارات السياسية..) تفننت النخب العربية الحاكمة في الالتفاف عليها وقمعها أحيانا باسم الدين وأحيانا باسم الانضباط واحترام السلطة وجميع هذه الحيل (العربية) لا تقنع العالم بحقوق الأمة العربية في التحرر والتنمية العادلة. شؤون الحكم لا تدار بالأوهام والشخصنة بل بإدارة المؤسسات الدستورية والحوارات الوطنية وتمكين أوسع طيف ممكن من الشعب من المساهمة بالرأي والاستثمار في عملية التنمية الثقافية والاقتصادية. كان هذا سر نجاح زعماء حققوا لأممهم ما يشبه المعجزات من معدن مانديلا ونجم الدين أربكان ومهاتير محمد وعلي عزت بيغوفيتش وقبلهم غاندي وتشرشل وديغول وماو تسي تنغ و لي كوان (سنغافورة). [email protected]