15 سبتمبر 2025

تسجيل

تحريف المفاهيم من تراثنا العربي الإسلامي

25 أكتوبر 2015

منذ القرن الماضي يردد البعض من الكتاب العرب، خاصة العلمانيين منهم، أن الاستبداد بنية كامنة في الفكر العربي الإسلامي منذ العصر الأول، في إشارة إلى المقولة الشائعة "المستبد العادل" التي أطلقت على سيرة الخليفة عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) في الحكم والإدارة، ولكنها ـ كما نعتقد ـ جاءت هذه المقولة محرّفة عن معناها، بحيث لا تعبر عن المفهوم المتعارف عليه في التراث العربي الإسلامي وهو "الحزم" و"عدم التردد في اتخاذ القرار" وإنما بمعنى الاستبداد وفق المفهوم الغربي وهو الانفراد بالرأي والسلطة دون أن تكون هذه السلطة خاضعة للقانون ودون النظر إلى رأي المحكومين.. إلخ. فكيف انتقل هذا المفهوم "الاستبداد" بمضامينه وحمولته الفكرية الغربية إلى المفهوم العربي الإسلامي؟ ومن هو قائل هذه العبارة؟ وهل قصدت عبارة المستبد العادل بمعناها الغربي بتلك المضامين السلبية؟.شاعت مقولة الاستبداد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بين الإصلاحيين الإسلاميين من خلال بعض كتابات ومقالات مختلفة ومن هؤلاء عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد)، وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من خلال مجلتهما مجلة "العروة الوثقى" ويورد د/ إمام عبد الله الفتاح إمام أن مقولة "المستبد العادل" انتقلت من أوروبا إلى الشرق.. فالحل الذي ارتآه جمال الدين الأفغاني لمشكلات الشرق إنما هو "المستبد العادل" الذي يحكم بالشورى.وقال ما نصه: "لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلاً قوياً عادلاً يحكمه بأهله على غير تفرد بالقوة والسلطان. وهذه المقولة التي قالها الإمام جمال الدين الأفغاني لا تعني أنه أيد الاستبداد بمضامينه المعروفة، إنما تعني الحزم والقوة والعدل في ظل الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي في فترة تكالب الدول الاستعمارية للسيطرة عليه، فهذا القول لا يؤكد أنه يؤيد الاستبداد السلبي بمفهومه الديكتاتوري المتسلط.كما أورد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه [المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية]، أن الشيخ محمد عبده تحدث عن نموذج "المستبد العادل"وقال ما نصه: "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، مستبد يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً.الواقع أن مقولة "المستبد العادل" التي قالها الشيخ محمد عبده، أو الحاكم القوي العادل عند جمال الدين الأفغاني في مناسبة واحدة فقط لا تعبر عن موقف ثابت من مسألة الاستبداد من هؤلاء الإصلاحيين المسلمين، حتى وإن كان مفهوم الاستبداد الذي قصداه يتوافق مع مفهومه في الغرب أو ربما جاء الطرح قبل أن يتكشفا الآثار الوخيمة للاستبداد، أما إذا كان مقصدهما الاستبداد بمعناه العربي الإسلامي، كما أشرنا، فإن المسألة واضحة وتتقارب مع كتاباتهما ومقالاتهما الإصلاحية.وهذا أيضاً لا يستقيم ـ إن كانت الإشارة ـ المستبد العادل ـ قصد بها سياسة اتبعها الخليفة عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) وهذا ما يعد مخالفاً لسياساته ومواقفه وأعماله العظيمة في الشورى والعدل والمواقف الإنسانية الأخرى التي تخالف مفاهيم الاستبداد وتطبيقاته العملية. ففي كتابات الإصلاحيين الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده الكثير من الآراء الناقدة للاستبداد ومخاطره على الأمة والنهضة والتقدم.فقد كتب جمال الدين الأفغاني في مجلة العروة الوثقى العديد من المقالات هاجم فيها الاستبداد هجوماً عنيفاً واعتبر أن الاستبداد أساس بلاء الأمة وشقائها ومما قاله: "إن الأمة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحكم واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، تلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير". ولم يتوقف إيمان جمال الدين الأفغاني بالحكم الدستوري ـ النيابي، بل واصل دعوته القوية المزلزلة فيقول: "لا تحيا مصر ولا يحيا الشرق، بدوله وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلاً قوياً عادلاً، يحكمه بأهله، على غير طريق التفرد بالقوة والسلطان، لأن بالقوة المطلقة: الاستبداد، ولا عدل إلا مع القوة المقيدة. وحكم مصر بأهلها إنما أعني به: الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح، وإذا صح أن من الأشياء ما ليس يوهب، فأهم هذه الأشياء: (الحرية) و(الاستقلال).وإذا رجعنا إلى التراث الإسلامي وما قيل إن الخليفة عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تنطبق على فترة خلافته فكرة "المستبد العادل"، كما أشار البعض، فإن الآثار عن مواقفه وسياساته التي اختطها هذا الخليفة ـ الملقب بالعادل ـ تخالف وتناقض هذه الفكرة ـ وإن صح أنها قيلت عن خلافته ـ فهذا الخليفة ـ رضي الله عنه ـ عرف عنه الحزم والإقدام والعدل والشورى والديمقراطية بمقاييس عصرنا، لكنه لم يعرف عنه التعسف والاستبداد والظلم وفق المضامين المعاصرة.ونعتقد أن هذه المقولة "المستبد العادل" جاءت في سياقات غير دقيقة وفهمت في غير مرادها، فإذا كان المقصود بعبارة "المستبد العادل" الخليفة عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فإن تاريخ هذا الرجل يتنافر مع هذه السياسة ويتناقض معها، كما أن العبارة نفسها "المستبد العادل" تتناقض مع نفسها، إذ نعتقد أنه لا يجتمع العدل مع الاستبداد، كما أن الحزم والشدة وعدم التردد لا يعني الاستبداد والقمع والتعسف. وكنت أتمنى من بعض الكتاب من هذه المسألة الشائكة، ولا يطلقوا أحكاما اختزالية مكرورة رددها البعض دون أن يتحققوا من مجمل آراء الرجل وأفكاره المتناثرة في مقالاته ورسائله ومؤلفاته، وبعد ذلك من قال إن الوضع العربي المتأزم سببه أفكار الأفغاني وأطروحاته، فالذي نعرفه أن آراء الأفغاني كانت غير مطروحة ولا مرغوب فيها في فترة الدولة العربية التقليدية ـ في فترة الاستعمار ـ لأنها تبنت في أغلبها النموذج الليبرالي الغربي، والرجل، كما نعرف، له توجهات إسلامية خالصة من خلال دعوته إلى الوحدة الإسلامية والاسترشاد بالنموذج الإسلامي، وعندما جاءت الدولة العربية القُطرية والحكم الشمولي في أغلبه، فإن أفكار الأفغاني مرفوضة تماما، بل ومطاردة، وغير مرحب بها، فكيف تكون آراء الأفغاني عن المستبد العادل سبب تعاستنا الثقافية والنهضوية؟!.***هذه الآراء التي تختزل مسيرة الفكر السياسي الإسلامي في هذه المصطلحات تحتاج إلى رؤية عادلة ومنطقية، تستجلي حقيقة واقعنا العربي، وكيف يمكن الخروج من المأزق الذي وقعت فيه نخبنا الفكرية والسياسية عند تعاطيها مع الآراء من تراثنا العربي الإسلامي.