14 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ خمسين عاماً أتابع الحياة السياسية في وطني تونس وفي العالم العربي وفي أوروبا ربما بالوراثة لأن والدي كان وطنيا دستوريا على قد حاله وكان يقرأ الصحف ويسمع الراديو ويساهم في الحركة التحريرية بما يقدر عليه من أضعف الإيمان أي أننا في عائلتنا كنا نخفي أحد المقاومين المسلحين عثمان سعيد وكان من أصهارنا وهو يلجأ لنا لأن دارنا قليلا ما يتطرق إليها الشك هربا من عصابة اليد الحمراء عميلة الاستعمار ومصفية المقاومين. كان ذلك سنة 1952 مع انطلاق الثورة المسلحة وعثمان سعيد كان لديه رشاش طالما تلمسته بزهو وخوف وكان يشارك في العمل المسلح ثم عند استقلال البلاد سنة 1956 عينه بورقيبة ضابطا في الحرس الوطني. كانت تلك صلتي بالسياسة ثم إن والدي سجلنا في مدرسة الفتح القرآنية التي كان المدرسون فيها كلهم من الوطنيين الدستوريين ومؤسسي الحزب الدستوري أمثال محمد بودخان والطاهر عطاء الله وكانوا يقضون أيامهم إما يعلموننا في الفصول أو يعانون في السجون فتعلمنا منهم محبة الوطن الحر رحمهم الله وطيب ثراهم. ثم جاء عهد الاستقلال وقامت مدينة القيروان بأول حركة تمرد على بورقيبة في يناير جانفي 1961 وشارك فيها طلاب المعهد الثانوي وكنت من بينهم احتجاجا عنيفا على نفي إمام جامعنا الأعظم ومدير معهدنا الشيخ الفاضل عبدالرحمن خليف واستشهد في ذلك اليوم خمسة متظاهرين وتم قمع القيروان وضرب الحصار عليها. وبعد سنوات من حكم الزعيم بورقيبة استقرت له السلطة المطلقة وأحاطت به بطانة لم تصدقه النصيحة ما عدا قلة نادرة من الوطنيين آثر بعضهم النأي بنفسه من الإذلال وقبل أغلبهم الإذعان لشخصية الزعيم النرجسية ولم ينبسوا ببنت شفة نصرة لحق أو دفاعا عن مظلوم. ومن السبعينيات بدأ غرق الزعيم في لجة الأمراض والهلوسات وبلغ الأمر أن حكمت تونس في أواسط الثمانينيات امرأة جاهلة محدودة المدارك هي ابنة أخته، فطرد الزعيم الخرف زوجته وسيلة من القصر وابنه الوحيد من حياته ووزيره الأول محمد مزالي من قصر الحكومة ونفاه إلى الخارج هاربا بجلده، ثم طرد من قصر قرطاج رفيق دربه سكرتيره لمدة ستين عاما علالة العويتي وبدأ التوانسة يفكرون في خلافة بورقيبة إلى أن دبر رئيس حكومته زين العابدين بن علي حيلة الفصل 57 من الدستور وغادر الزعيم قصره وعصره ثم لم تتأخر رئاسة ابن علي عن اللحاق المبكر بملحمة سقوط بورقيبة وتصورت بعض النخب أن عهد 7 نوفمبر مستمر إلى عقود إلى أن جاء التغيير الكبير على أيدي شباب يائس معطل عن العمل وناس عاديين يتوقون للكرامة ونخبة تطمح للحرية وكنت أنا أتساءل مع غيري في قناة الجزيرة أو في مؤتمرات دولية أو في مقالاتي وكتبي المتواضعة منذ منفاي الطويل عن سر خروج العرب من التاريخ بسبب ما سماه المفكر الأمريكي من أصل هندي فريد زكريا "الاستثناء العربي" حين يتشبث الزعماء العرب بالسلطة إلى درجة الهوس والجنون والإبادة؟ وباركت مع من بارك المشير عبدالرحمن سوار الذهب عندما تولى الحكم في السودان بعد الطاغية جعفر النميري ثم أوفى بوعده وغادر الرئاسة بعد سنة بالضبط وطالما تحادثت مع هذا الرجل المثقف في ندوات جمعتنا ثم باركت مع من بارك تخلي صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عن إمارة قطر متنازلا لابنه الشيخ تميم وهو موفور الصحة وفي تمام العافية معتقدا أن بعد الحكم توجد حياة وتوجد سعادة غفل عنهما أغلب حكامنا العرب. ثم إني عشت سنوات المنفى في فرنسا وتعرفت في مقر تلفزيون فرنسا 24 على الرئيس الأسبق للاتحاد الأوروبي السيد جاك ديلور الذي كان مؤهلا للرئاسة في انتخابات 2002 وحاصلا على أكبر نسبة نوايا الاقتراع وإذا بالرجل الشهم يقول: "لن أترشح لأن لدي حديقة صغيرة فيها أزهار جميلة سوف أخصص زمن تقاعدي لتشذيبها وريها وترتيبها ولكل جيل رجال" ثم طالما التقيت بمحض الصدفة بالرئيس الأسبق فاليري جسكار دستان في محطة القطار مون بارناس بباريس وهو يجر حقيبته كأي مسافر مجهول ويحظى بتحيات المواطنين العاديين الذين يعرفونه من خلال التلفزيون فيسلمون عليه بأدب واحترام. وفي ساحة البنتيون قرب حديقة اللكسمبور حيث كنت أسكن لفترة قصيرة، كم مرة أقف في الطابور عند الخباز لأقتني الكرواسون (أكلة الصباح لدى الفرنسيين) فأجد أمامي السيد لوران فابيوس رئيس الحكومة الأسبق في عهد الرئيس ميتران ورئيس البرلمان بعد ذلك ووزير الخارجية الحالي منتظرا في الطابور دوره ليشتري الكرواسون الطازج مثلي ومثل أغلب الناس وهو آمن متمتع بتقدير الجيران. وتعود لذاكرتي مآسي القادة العرب حين تنغرس كراسيهم في الأرض بعروق وجذور أشبه بالأشجار القوية الراسخة فلا يتصورون حياتهم إلا فوق هذه الكراسي ومحاطين بالبطانة التي تقول لهم ما يعجبهم وتزين لهم أعمالهم وتخدعهم حتى تعصف بهم عواصف الدهر وهم غافلون فتصبح البطانة أول المنقلبين عليهم وهكذا تشابهت سيناريوهات الثورات فيتم إخراج صدام حسين من حفرة في عزبة بالعراق ويشنقه خصومه في صباح عيد الأضحى كما يتم قتل العقيد القذافي بطريقة وحشية لا تشرف من ارتكبها مهما بلغت جرائم هذا الرجل المهووس بالحكم وكذلك يؤخذ محمد حسني مبارك من غرفة نومه إلى نقالة في قفص أشبه بأقفاص حيوانات السيرك وينجو علي عبدالله صالح من عدة محاولات اغتيال لكنه يعيش اليوم بوجه مشوه بالحرق في اليمن مضمونا بالتزام خليجي ولا يزال مصير بشار الأسد مجهولا إلى اليوم لكنه ربما لن يختلف عن السيناريو العربي الذي تعودناه. يقول الله تعالى في تنزيله الحكيم:" وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" - النحل: 112- هذه آية من آيات الرحمن تعبر أصدق تعبير عن وضع بعض الزعماء العرب الذين نددنا منذ عقود بكفرهم بأنعم الله بعد أن كانوا وكانت بلدانهم آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فغفلوا عن مغادرة الحكم بعد زمن معقول ولم يعدوا للسلطة جيلا جديدا ولم يعودوا الناس على التداول السلمي والديمقراطي على الحكم وهنا جاء عقاب الله (مع عقاب الأمة) فأذاقهم سبحانه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.