12 سبتمبر 2025
تسجيلفي غضون ثلاث سنوات فقط تغيرت حال عالم المال والأعمال، إذ بعد أن كانت البنوك والمؤسسات المالية تروج للقروض للتخلص من السيولة الزائدة المتوفرة لديها، أصبحت تبحث بشق الأنفس للحصول على هذه السيولة النقدية، مقلبة أوراق دفاترها القديمة للبحث عن القادرين على السداد والمودعين الذين ما زالوا يملكون قدرا من السيولة، مثلما حدث مع تاجر البندقية في رائعة وليم شكسبير. ولكن أين هم هؤلاء المالكون للسيولة المفقودة ؟ فالأرضية النقدية لأوروبا تشبه إلى حد بعيد أرض الصومال الجافة هذه الأيام، وذلك بعد أن سحبت اليونان أرصدة الألمان والفرنسيين النقدية، من خلال القروض والتمويل سابقا ومن ثم من خلال خطط الإنقاذ المتتالية التي لم تعط نتيجة إيجابية حتى الآن في بلد يتظاهر الناس فيه كل يوم في الشوارع بدلا من التوجه إلى أماكن الإنتاج والعمل لإنقاذ اقتصادهم المنهار. أما الولايات المتحدة، فقد أضحى وضع السيولة لديها يشبه وجه عجوز طاعن في السن جافا وخاليا من ملامح الحياة، وذلك على الرغم من قيام بنك الاحتياط الفيدرالي بضخ 2.35 تريليون دولار منذ بداية الأزمة ضمن ما يسمى "بالتسيير الكمي" والذي لم يفلح في تسيير الأمور وفق الخطط الموضوعة. وإن المرء ليحتار فعلا أين اختفت مئات المليارات في طرفة عين، وكأنها تسربت للفضاء الخارجي مع رواد محطة الفضاء الدولية، إلا أن الأمر لا يخلو من عملية تشبه إلى حد بعيد عملية التدمير الذاتي للخلايا عندما تشيخ أو تصاب بمرض عضال، فالنظام الاقتصادي العالمي يكتسي يوما بعد آخر طابعا طفيليا يعتمد على المضاربات والمعاملات المالية الخاطفة، وهو ما أشار إليه بعض فلاسفة ومفكري القرن التاسع عشر أثناء بحثهم لطبيعة وآفاق تطور العلاقات الاقتصادية للمجتمع الصناعي الرأسمالي، الذي بدأت تتبلور طبيعة علاقات عناصر الإنتاج فيه مع بعضها البعض في ذلك الوقت. لذلك، فإن الحل لا يكمن في البحث عن السيولة، وإنما في ضرورة تغيير طبيعة العلاقة بين عناصر الإنتاج ذاتها، وذلك بتوفير الحد الأدنى من العدالة وبإدخال تقنيات المعرفة لتنمية القطاعات الإنتاجية واعتمادها، كأساس للنمو الاقتصادي الفعلي، بدلا من التركيز على تضخيم الأصول كفقاعات سرعان ما تنفجر لتتبدد معها مدخرات الأفراد وموجودات المؤسسات والحكومات. ويبدو أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه حتى الآن، فرأس المال المالي المتحالف مع الأوساط المتنفذة يحاول استعادة زمام المبادرة من جديد من خلال البحث المضني عن السيولة التي تتيح له إعادة دوران رأس المال المالي من جديد لتحقيق أرباح كبيرة وسريعة. وبما أن المؤسسات المالية في الغرب نشفت تقريبا وفقدت قدرتها على لعب الدور السابق للأزمة في الوقت الحاضر على أقل تقدير، فإن الأنظار تتجه من جديد لأسواق البلدان الصاعدة وكذلك للبلدان المصدرة للنفط والتي ما زالت تتمتع بسيولة تؤهلها للعب دور أكبر في الاقتصاد العالمي، خصوصا وأن العديد من المؤشرات الاقتصادية، وبالأخص معدلات النمو المرتفعة أصبحت إحدى السمات الملازمة للتطور الاقتصادي لهذه البلدان في السنوات العشر الماضية. وتقف الصناديق السيادية للبلدان الصاعدة، بما فيها صناديق دول مجلس التعاون الخليجي في مقدمة المؤسسات التي يعول عليها لتزويد الأسواق العالمية بجزء من السيولة عن طريق تزييت مكائن المؤسسات الغربية والأمريكية الصدئة. من هنا يحاول بنك "أوف أميركا" بيع حصة تقدر بـ 17 مليار دولار لصناديق خليجية، وذلك بعد أن قرر إلغاء 30 ألف وظيفة لتوفير خمسة مليارات دولار سنويا، إذ يتطلب الأمر التعامل بحذر مع هذا العرض، وخصوصا بعد التجربة القاسية لشراء حصة في "سيتي بنك" والتي لم تكن تجربة مريحة، مما منح المؤسسات الخليجية خبرة أكثر في التعامل مع عمليات الاستثمار في الأسواق الدولية، وبالأخص في المؤسسات العطشى للسيولة. وخلافا لفترة ما قبل الأزمة، فإن الخيارات قدت أكثر تنوعا وجدوى بالنسبة للصناديق السيادية في العالم، حيث تتوفر فرص واعدة في البلدان الصاعدة، مما يفسر زيادة الاستثمارات الأجنبية في الصين والهند وتركيا والبرازيل وروسيا، حيث أعلنت صحيفة "كوميرسانت" في بداية الشهر الجاري عن رغبة الصناديق الخليجية لاستثمار 100 مليون دولار في مصارف روسية في الفترة القادمة. ومما يرجح التوجه نحو الاقتصادات الصاعدة هو استمرارها في تحقيق معدلات نمو مرتفعة واعتمادها على قطاعات إنتاجية وتأثرها بصورة أقل بلوثة تضخيم الموجودات المفتعل عن طريق الأدوات المالية، حيث أعلنت الصين في هذا الصدد عن استعدادها لإنقاذ منطقة "اليورو" بشرط عدم إعاقة الصادرات الصينية لبلدان الاتحاد الأوروبي واعتماد اقتصاد السوق. وإذا ما تمكنت الصناديق السيادية من حسن الاختيار وبعيدا عن إغراءات الربح السريع، فإنها ستعزز من مكانتها وستعوض خسائرها الدفترية التي تكبدتها أثناء الأزمة مع إمكانيات مهمة للاستحواذ على مؤسسات مالية عريقة في الغرب والاستثمار في مؤسسات واعدة في الشرق.