18 سبتمبر 2025
تسجيلعجبت لمن يبلغ الأربعين ولم يكره البشر بعد! هذه مقولة موجعة وقاسية، قالها الفيلسوف الفرنسي باسكال، وهي مقولة تعكس عدم ثقته بالناس أجمعين، أما فرانز كافكا – الروائي التشيكي الشهير- فإن له رواية من أشهر رواياته، هي رواية المسخ، وفيها يصور إنسانا قد صحا من نومه ليتأهب للذهاب إلى عمله لكي يساعد أفراد عائلته باعتباره الأخ الأكبر، لكنه يكتشف أنه قد تحول إلى حشرة وأصبح صرصارا كبير الحجم، وهنا بدأت مشكلاته مع أقرب الناس إليه وهم أهله، حيث رأى بعينيه أنهم كانوا يتعلقون به لمجرد أنه في نظرهم مجرد بقرة حلوب، تجلب لهم ما يريدونه، وحينما أصبح حشرة أخذوا يؤذونه، بل يتمنون له الموت، إلى أن مات بالفعل، فقامت الخادمة بكنسه مع القمامة خارج البيت. هذان المثالان من باسكال وكافكا يصوران غياب الثقة بين الناس، وعدم طمأنينة الإنسان حتى لأقرب الناس إليه. فالإنسان يظل محبوبا - في الظاهر- طالما أنه مفيد لمن يلتفون حوله، لكن المحبة تسقط في الأوحال بمجرد أن يصبح الإنسان في نظرهم غير ذي نفع. إذا كان هذان المثالان من أوروبا، فهل – يا ترى – تبدو الصورة مختلفة عندنا نحن العرب؟ هناك أنماط مزعجة من التصرفات والأفعال، وكلها تحولت إلى ظواهر مخيفة، لكن كثيرين قد تعودوا عليها وتآلفوا معها، لدرجة أنهم أصبحوا يتعاملون معها باعتبارها من الأمور المسلم بها.. بمجرد أن يكبر الأب وتعتريه الشيخوخة يصبح في نظر أبنائه عالة عليهم، وعليهم أن يحاولوا التخلص من هذا العبء الثقيل، وهكذا يظل هؤلاء الأبناء يترقبون بشوق ولهفة دنو أجل الأب، حتى يتقاسموا ما خلفه من ميراث.. وبمجرد أن يتخلف صديق من الأصدقاء لسبب أو لآخر عن جلسات أو سهرات أصدقائه، فإن كثيرين منهم يقيمون موائد النميمة والمكائد لذلك الصديق الغائب، وبمجرد أن ينجح إنسان ويتألق في عمله، فإن المتفرجين الذين لا يعملون لأنهم لا يحبون العمل، ينصبون حوله شراك الشائعات الكاذبة والمشككة في قدراته وإمكاناته، دون أن يحاول أحد أن يتصدى لتلك الشائعات. من هذا المنطلق يأخذ كل إنسان في هذا الزمان حذره من الآخرين، لأنه لا يثق فيهم ولا يحبهم، وكل هذه الظواهر المخيفة والتي أصبحت من المسلمات في حياتنا العامة والخاصة على حد سواء تنعكس سلبا على مختلف مجالات الحياة. حين يتحدث الإنسان عن الحب الذي يقرب بين الناس، فإن الآخرين يستهزئون من حديثه، قائلين له إنك تتحدث عن المثاليات، في زمن كله أطماع وماديات، وحين تصبح كل الأشياء الجميلة والقيم النبيلة عرضة للسخرية والاستهزاء، فعلينا أن نتناسى قول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا- وما لزماننا عيب سوانا، وأن نقنع ونقتنع في قرارة أنفسنا بما قاله باسكال وأن نطبقه عمليا في حياتنا اليومية، مرددين في صمت: عجبت لمن يبلغ الأربعين ولم يكره البشر بعد. السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا: هل أصبحت أرواحنا غير قادرة على الحب؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أننا مطالبون بأن نواجه أنفسنا مواجهة شجاعة وصادقة، ولابد أن نحسم هذه المواجهة مع النفس، قبل أن نفكر في مواجهة الخصم أو العدو!