31 أكتوبر 2025

تسجيل

شهداء تونسيون مجهولون

25 يونيو 2014

دفع الشعب التونسي ثمن الحرية واستقلال بلاده غاليا وقدم للوطن شهداء لم يعد الناس يذكرونهم لأن التاريخ حكم ألا يسجل في الذاكرة الجمعية سوى أسماء مشاهير الشهداء أي أولئك الذين كانوا زعماء في حياتهم واختارهم الله سبحانه للشهادة وهم أحياء عند ربهم يرزقون أمثال فرحات حشاد والهادي شاكر وصالح بن يوسف رحمة الله عليهم أما بسطاء المواطنين الذين جندلهم رصاص الاستعمار الصليبي التخريبي في لحظات الثورات المتعاقبة أو توفاهم الله على أيدي زبانية الأنظمة الفاسدة فإنهم مع مرور الزمن تمحى أسماؤهم من ذاكرة الأجيال ولا يبقى لبعضهم سوى نهج صغير أو زقاق ضيق في الحي الذي ولدوا فيه في مدينتهم أو قريتهم تحمل أسماؤهم بلا إشارة للسبب الذي من أجله أعطيت تلك الأسماء. وأذكر اليوم أحداث ثورة (يناير) 1952 في مدينتي القيروان وكنت طفلا صغيرا في الخامسة من عمري في أول سنة دراسية لي في مدرسة الفتح القرآنية التي يدرسنا فيها مناضلون وطنيون تعرفهم السجون كما تعرفهم فصول المدرسة أمثال محمد بودخان والطاهر عطاء الله وفي يوم 20 يناير انطلقت أول مظاهرة شعبية ضد الاستعمار وخرج الجيش الفرنسي من ثكنة القيروان للتصدي لها وإخماد جذوة التمرد العارم وأخرجنا مدرسونا من المدرسة صفوفا نلوذ بأسوار المدينة لنعود إلى ديارنا خوفا علينا وسقط أول شهداء القيروان وهو طالب من طلاب الزيتونة اسمه عمار القحطار كان يقود الشباب ويتقدم الصفوف ويعطي المثل حين جندله رشاش غادر فسقط الطالب الشاب على أرض عقبة بن نافع وطارق بن زياد والإمام سحنون والإمام السيوري وعبدالله بن أبي زيد وحين استقلت تونس وضعت البلدية اسمه على نهج صغير فيه دار الشهيد في حينا المتواضع (نهج عمار القحطار) رحمك الله يا عمار ولن ننساك أبدا في زحمة سوق التهريج السياسي الذي انتصب قبل وبعد 14 (يناير) في بلادنا. أما الشهيد الآخر الذي لا يعرفه أحد فهو الرجل الذي قاوم الاستعمار بالسلاح وعرفته الجبال أثناء معركة التحرير وهو المناضل أبوبكر العمامي الذي اشتغل منذ الخمسينيات في جريدة (العمل) التونسية لسان الحزب الدستوري والتي أسسها الزعيم بورقيبة سنة 1934 وكان عم بوبكر العمامي موظفا قائما على جمع ديون الجريدة من المؤسسات والشركات ويتقاضى عن عمله وجهده نسبة مئوية يخولها القانون لأنه يجري وراء مستحقات الجريدة بسيارته الشخصية ووقوده الخاص. وحين عينت في الجريدة من قبل بورقيبة رئيس تحريرها ومدير إدارتها سنة 1981 وجدت عم بوبكر على رأس عمله ولكن الذي وقع هو انقلاب 7 نوفمبر 1987 وبداية مسلسل الانتقام الرخيص من رئيس الحكومة الأستاذ محمد مزالي ورفاقه المقربين بعد أن خرجت أنا مع محمد مزالي إلى منفانا الفرنسي وشرعنا نقاوم الطاغوت منذ انتصابه ولم يكن معنا سوى دستوريين أمثال أحمد بنور وزير الدفاع ثم الأمن والطاهر بلخوجة وزير الداخلية وأحمد بن صالح وزير الاقتصاد وجميعنا طالتنا آلة القمع إلى جانب مجموعة من الإسلاميين أولهم الشيخ صالح كركر ورفاقه من شباب الصحوة وحين استولى على السلطة الجنرال ابن علي سلط علينا وزيره الأول الهادي البكوش فدشن عهدا غريبا من التهم الكيدية الملفقة ووظف حسن بن فلاح (عميد قضاة التحقيق) فكانت الملفات جاهزة والأحكام مملاة والضحايا يدخلون السجون لمجرد كونهم حطبا لإرضاء شهوات وأمراض سعيدة ساسي وخالها بورقيبة لأن زين العابدين حين تمكن من رئاسة الحكومة انساق وراء "رهاب" الزعيم الخرف الذي كان يرفع شعارا أجوف هو مقاومة الفساد. فانتقمت سعيدة من عدوتها اللدودة وسيلة بن عمار زوجة بورقيبة بتلفيق تهم ضد زوج ابنتها توفيق الترجمان وأحد المحسوبين عليها رئيس شركة تونس الجوية محمد بلحاج وعينت صديقها حمادي السخيري محافظا للبنك المركزي. لكن الهادي البكوش ألصق بي وبغيري تهما تتعلق بسرقة المال العام وكان أول من ألبس القضايا السياسية لباس الحق العام ولتمرير الكذبة حشر معي في نفس القضية أبوبكر العمامي ومن حسن حظي فررت بجلدي إلى باريس حيث منحتني الحكومة الفرنسية اللجوء السياسي بسرعة لكن المناضل بوبكر بقي في تونس وتحمل مأساة الوقوف عدة مرات أمام عميد قضاة التحقيق وهو مهدد بالسجن وكانت الصدمة قاصمة لظهره وهو المقاوم بالسلاح للمستعمر من أجل استقلال تونس.. هذه تونس التي عاش حتى شاهدها تتحول إلى سجن كبير ثم أوقفوه أمام رئيس المحكمة (الطيب بن عبيد) ولم يقدر على الوقوف فأمر له بن عبيد بكرسي ورفض بوبكر أن يجلس فهو ابن الجبال والسباسب التي عاش فيها سنوات الكفاح بطلا من أبطال الوطن. وبحكم معرفتي بالرجل أدركت أنه من شدة الصدمة بما آلت إليه أمور الوطن من الدرك الأسفل عاد إلى بيته المتواضع وقلبه الكبير لم يعد يتحمل تلك المظالم فانهار بجلطة في القلب رحمك الله يا صديقي ويا من ظلموك فقتلوك والأغرب في قصة الملفات الكيدية أن البكوش مدير الحزب آنذاك هو الذي بدأ يشن على كل رفاق مزالي حربا جائرة تمهيدا لتتويج ابن علي فأذن لمدير جريدة العمل الذي هو أنا بأن يدفع من ميزانية الجريدة عشرين ألف دينار للمحاسب منجي العتيري وهو من مقربيه ومن مواليد حمام سوسة أجرة مكتب محاسبته على ما سماه البكوش (سوء التصرف والاختلاس..!) فالجريدة تدفع للمحاسب المحسوب عليهم مبلغا هاما جدا في ذلك التاريخ (1986) ليعد ملفا ضدي وضد بوبكر العمامي! كل هذا كان يهون وتطوى صفحاته السوداء لولا أن رجلا مناضلا شهما اسمه أبوبكر العمامي توفي متأثرا بالإهانات والمرمطة والمظالم. وحين كنت في منفاي وسمعت خبر استشهاده أقسمت أن يأتي يوم أنعيه وأرثيه وأحيي أسرته التي تحملت الأذى بعد وفاته وأكشف للرأي العام جزءا بسيطا من عار الصراع على السلطة وضحاياها في الهزيع الأخير من خرف بورقيبة. الشهيد الثالث هو المرحوم علي السعيدي الذي استقال من منصبه كموظف بوزارة الخارجية وانشق مثلنا عن مهازل أواخر عمر الزعيم وأصبح معنا في المنفى الفرنسي يدير شبكة من العلاقات المفيدة بشخصيات بارزة من أوروبا واستقر في مدينة (إيفرو) وكان يلازمنا ويسهل لقاءاتنا إلى أن أغراه نظام ابن علي بالعودة واعدا إياه بإصلاحات سياسية وسن العفو التشريعي فعاد إلى أرض الوطن وباشر وظيفته بوزارة الخارجية ثم اكتشف الخدعة سريعا وعاد للاتصال بنا في المعارضة المنفية حين التحق بنا محمد المنصف المرزوقي هو الآخر يائسا من وعود ابن علي وفي الأثناء رجعت أنا إلى أرض الوطن سنة 2000 واستقبلني ابن علي في قصر قرطاج وبدأ نوع من الانفراج لكن علي السعيدي تم اغتياله في ظروف غامضة وتواصل النفاق واستمر القمع وعاد النظام لاضطهادي سنة 2006 حين أصدرت كتابي (ذكريات من السلطة إلى المنفى) وشاركت في برنامج للجزيرة حول الفساد والقمع في تونس. رحم الله الشهيد علي السعيدي وأبقى ذكره حيا في وجدان الأجيال.