18 سبتمبر 2025
تسجيلصدر كتاب للمفكر الفرنسي "باسكال بلنشار" بعنوان (تاريخ آخر للاستعمار)، قال فيه إن في فرنسا 25 متحفاً متخصصاً غير المتاحف الكبرى وإنه ليس من بينها متحف لتاريخ الاستعمار كأن الغرب يريد أن يمحو من ذاكرته كل الفواجع والجرائم المرتكبة خلال أكثر من قرن، وكل يوم يعيشه العرب يأتي تأكيداً ليقين زادته الأيام توطيداً وهو أن أعداء العرب والمسلمين اختاروا ملعب الفتنة ليضطهدونا ويغتصبوا حقوقنا ويضعونا خارج التاريخ، ويكفي أن نفكك إستراتيجية المستقبل التي حددها اليمين الإسرائيلي في مشروع صفقة القرن وحللها نتنياهو وحليفه (غريمه بيني غانتس) في الحكم في خطابهما أمام الكنيست يوم تشكيل حكومة الائتلاف لنتأكد أن أبرز عنصر في هذه الإستراتيجية هو تعميق الفتنة العربية الإسلامية مما يخدم أو يعتقد تيار عنصري يميني من داخل الإدارة الأمريكية الراهنة أنه يخدم مصالح دولة إسرائيل في ذكرى نشأتها الثالثة والسبعين. فالرئيس ترامب مع زلزال كورونا يدرك تمام الإدراك أنه ربما سيغادر البيت الأبيض ومعه سيغادر المتطرفون من المحافظين الجدد سدة القرار الأمريكي ولهذا السبب يأتي السباق المحموم مع الزمن، حيث جاء الخطاب كما وصفه صحفي إسرائيلي "انجيليا" بدون أي مساحيق. فالطائفية التي تمزق الدين المسيحي التي يستغلها رسمياً الإسرائيليون غائبة تماماً في رؤية اليمين العنصري الإسرائيلي وهي في الواقع الأقوى والأشد ضراوة في حين أن طائفية المسلمين لم تكن موجودة قبل هزيمة المسلمين بل جاءت نتيجة للقهر واغتصاب الحقوق وفساد الطبقات الحاكمة والمعارضة! (مثال ذلك من كان يسمع بالحوثيين في اليمن قبل 5 أعوام إلى أن تدخلت الإمارات والسعودية بالمال الفاسد والسلاح؟) فالفتنة العربية الإسلامية قائمة لا شك فيها لكنها تبقى ردة فعل المستضعف أمام طاغوت المستكبر، ونحن نشاهد الذي يجري في لبنان وفي سوريا والعراق واليمن من تناحر سياسي يلبس كسوة الطائفية، والذي يحدث في العراق من تقسيم قسري للوطن على أساس خدمة المصالح الإسرائيلية والغربية المتطرفة ثم يزين بعباءة الطائفية والذي يهدد فلسطين من فتنة بين حماس وعباس والذي يخطط في العلن لسوريا وإيران من عزل نادى به ودعا إليه منذ سنوات الرئيس الأمريكي بوش الابن يوم 15 مايو 2008 في عاصفة من التهليل والتصفيق أمام الكنيست وهو عراب المحافظين الجدد ومنفذ برنامج (برنار لويس) لشرق أوسط جديد!. ويجب ألا ننسى أن الاتحاد الأوروبي بسبب انعراج فرنسا نحو الخط الأطلسي ربما ينخرط في عدوان عسكري إقليمي ضد ليبيا وإيران وسوريا وفلسطين ولبنان تحت ستار إخماد لهيب الطوائف بينما سلاح التطرف العنصري الإسرائيلي والغربي هو تغذية الفتنة الطائفية لا إخمادها. وهنا يتجلى الأنموذج العراقي واضحاً ساطعاً كالشمس منذ 2003، حيث جاء الاحتلال الأمريكي للعراق مؤذناً بإطلاق الوحش الطائفي من عقاله والشروع الفعلي في تقسيم العراق إلى كنتونات طائفية يمكن التعامل معها كل على انفراد، فالمخطط الذي يرتب له من الخارج في بلدان عربية عديدة من تعلات حماية الأقليات المسيحية مثلا يندرج أيضا في هذه الإستراتيجية الشاملة التي يمكن أن نسميها بالأبجدية العربية للفتنة. ولا نملك سوى الإقرار بأن العرب كل العرب يقعون في خريطة العواصف العاتية القادمة، وهي خريطة طريق استعادة الإمبريالية الاستخرابية العظمى التي لم تهضم بعد رياح التغيير والتحرير بعد أن هبت على العالم الإسلامي منذ نهضته في القرن العشرين على أيدي الآباء المصلحين المؤسسين ومنذ استرجاع الشعوب المسلمة مقاليد مصائرها بعد حركات مقاومة وممانعة أعادت الروح للجسد المنهك منذ إلغاء الخلافة الإسلامية وبدأ المسلمون يتبوأون منزلتهم الرفيعة في العالم، والغريب أن إستراتيجية أبجدية الفتنة تعمل على طمس الحقائق التاريخية بالتزييف، حيث لم يعد هناك حق فلسطيني حتى لو اعترف به القانون الدولي حسب صفقة القرن وحيث إن الرئيس الأمريكي ضرب بكل المواثيق والقرارات الأممية حتى التي وقع عليها أسلافه عرض حائط المبكى حين أعلن أن الشرق الأوسط الجديد ستقوده إسرائيل الديمقراطية نحو المستقبل خلال الستين سنة القادمة وأنه يتوقع محو حزب الله وحماس والقاعدة وإيران من هذه الخريطة (لاحظوا الخلط المقصود بين العناصر المختلفة المتباينة ووضعها في نفس السلة). وأنا أعجب من أمر أولئك الشباب العرب المغرورين الذين ينصحوننا عن حسن نية بعدم الانخراط في منطق توقع المؤامرات والخوف من الغرب وهم معذورون بسلامة الطوية لأنهم ولدوا ونشأوا في دول مستقلة بينما نحن ولدنا ونشأنا في شعوب كانت تخضع لنير الاستعمار وطالما شهدنا ونحن أطفال عسف المستوطن الأجنبي الإقطاعي وظلم الضابط الدخيل المتعجرف ضد أهلنا في تونس والجزائر والمغرب وتربينا على الربط الجدلي بين مقاومة الغرب كاستبداد سياسي واستلاب ثقافي وتشويه فكري وتحريف لغوي وبين إعادة الاعتبار للهوية العربية المسلمة كأداة ضرورية للبقاء. ثم إن هؤلاء الشباب لم يقرأوا كيف كانت صحيفة (لوكولون أي المستعمر) تنشر عام 1931 مقالات للعنصري الفرنسي مديرها (فكتور دوكارنيار) يقول فيها بالحرف: "إذا ما اعترض سبيلك عربي وحية فاترك الحية واقتل العربي". وعاش جيلي أيضا عهداً كنا نسمع فيه صباح مساء من وسائل إعلام الغرب الطاغي أن المقاوم الجزائري إرهابي وأن المناضل الفيتنامي إرهابي وحتى نيلسون منديلا إرهابي بل ومدرج في القائمة الأمريكية للإرهاب! والحبيب بورقيبة إرهابي (مجلة باري ماتش الباريسية يناير 1952) والجنرال شارل ديجول إرهابي محكوم عليه بالإعدام عام 1940 من محكمة الخونة في باريس! هؤلاء "الإرهابيون" صنعوا التاريخ ودار الزمن ليتحولوا إلى أبطال وتبين أن المؤامرات هي السير بعكس اتجاه التاريخ. هذه المعاني والقيم تعود إلى أذهان جيلي حين نسمع خطاب اليمين الأمريكي والإسرائيلي يقسم العالم اليوم إلى إرهابيين عرب ومسلمين وإلى خيرين ديمقراطيين إسرائيليين! أي أن خط الإمعان في السير ضد اتجاه التاريخ متواصل. [email protected]