12 سبتمبر 2025
تسجيلالذي حدث في مدينة سليانة وفي قرية الروحية بالبلاد التونسية يوم الأربعاء الماضي يعتبر سابقة خطيرة و مؤشر تحول نوعي لمسلسل نرجو ألا يستمر من العنف و علامة من علامات فوضى لا نراها خلاقة و لا حبلى بالفجر الموعود. فالشهيد المقدم الطاهر العياري الذي قتله رصاص عصابات مسلحة مجهولة أو معلومة لم يكن يعلم قطعا بأن بلاده الوديعة مستهدفة و بأن مواطنيه مقبلون على مرحلة حرجة غامضة من الاندساس الإرهابي الوارد علينا من حدودنا و لم يدر بخلده رحمه الله بأنه ضمن كتيبته من الجيش التونسي سيواجه شبابا مسلحين لا يعلم أحد من أين جاؤوا و لا بمن سلحهم و لا لأية غاية. على مسافة أربعة شهور صعبة و مليئة بالأمل منذ منتصف يناير إلى منتصف مايو تغير المشهد السياسي و الاجتماعي التونسي بشكل جذري و توارى الصمت ليفسح المجال أمام انفجار التعبير و الطاقات و الانتظارت و المطالبات و البرامج و الحوارات، و اندلعت الحريات بشتى أصنافها لتأخذ حظوظها المغتصبة منها و فوجئ التونسيون بظاهرة جديدة لم يألفوها منذ نصف قرن وهي تقلص الأمن بمعناه المدني أي المنظم لحياة الناس و الضامن لبقائهم و أرزاقهم و أطفالهم. ولعل هذا التقلص أو أحيانا الغياب جاء نتيجة لمناخ انعدام الثقة المؤقت بين المواطن المدني و المواطن لابس الزي فحل سوء التفاهم محل الحوار واكتشف الناس بأن الشرطة و الحرس الوطني جهازان أساسيان لحماية المواطن و حقوقه و ممتلكاته و دلت عمليات سبر الآراء على أن الهاجس الأول لدى أغلب المواطنين هو هاجس الأمن لأن الأمن بمفهومه الحداثي الديمقراطي يعني بكل بساطة توفير اللبن للرضيع و الدواء للمريض و الراتب للموظف و المتقاعد نهاية الشهر و فتح المدارس و الجامعات في وجوه مليون من بنات و أبناء تونس و رفع النفايات من الشوارع و تزويد العائلات بالخبز و الخضار و الكهرباء و الغاز و بتوصيلة الإنترنت لجزء كبير من الشعب. تمر بعض المجتمعات العربية هذه الأيام بمرحلة مخاض عسير لمولد دولة الحق و القانون و العدل وهي مرحلة ليس من اليسير توقع نتائجها أو ضمان عواقبها بسبب ما يترصد مسار التحولات الكبرى من مخاطر التفاف قوى الردة عليها بشتى الأساليب و مختلف الألاعيب. و لعل أخطر ما يجهض هذه الحركات الإصلاحية هو انتشار الفوضى و ضياع البوصلة و انقلاب قوى الخير ضد بعضها البعض و التخلي عن احترام الاختلاف ليحل محله منطق إقصاء الآخر بدعاوى إيديولوجية أو طائفية أو حزبية أو جهوية أو قبلية. هل يمكن أن نعتبر أي تغيير ناجحا و أن نعتبر أي تحول مباركا إذا ما أفقنا ذات صباح على صراخ رضيع فقد الحليب و على أنين مريض فقد الدواء و على حسرة رب أسرة لم يستطع صرف راتبه لأن البنك موصد و على مأساة والد احتفظ بابنته في البيت عوض الذهاب إلى مدرستها بل إن هذه المعضلات تبدو أرفق و ألطف أمام أم ثكلت ابنها الشاب الذي خرج و لم يعد و أمام فتى في مقتبل العمر أصبح معاقا و أمام صاحب مصنع وقف عاجزا أمام حريق حول ثمرة كفاح عمره إلى كومة رماد. كل هذه التوابع المتوقعة أو الطارئة عشناها و عرفناها في تونس و دقت اليوم ساعة الجد حتى تفيق النخبة مهما كانت مواقعها الفكرية أو مصالحها الانتخابية على حقائق جديدة من مغبة وأد أحلام الشباب و تحويل نهر الحريات عن مساره التاريخي ليتمخض عن تسونامي هادر لا يبقي و لا يذر. إن عديد الحركات عبر التاريخ المعاصر و القديم جاءت بثمراتها المرة عوض إهداء الحريات للأمم و حل دكتاتور أحمر عوض الدكتاتور الأخضر و تغيرت الشعارات لكن الحقوق صودرت و الأفواه كممت و الأحلام أجهضت. و أنا الذي عشت في طفولتي عهد الاستعمار الفرنسي و صفقت للاستقلال على أيدي بورقيبة ثم بعد ثلاثين عاما من البورقيبية علقت الآمال على من أزاح بورقيبة رغم معاناتي للمنفى و المظالم و الكيد ثم سريعا ما خاب الظن و انطفأ الأمل و بعد 23 سنة من الاستبداد فرحت ككل التونسيين بحركة التغيير يوم 14 يناير 2011 و علقنا الرجاء على نضج الشعب و وعي النخبة. فارحموا هذا الوطن يرحمكم الله و لا تقلبوا الأولويات فالتاريخ له نواميس و سنن لا تتغير و لا تتحول.