19 أكتوبر 2025
تسجيلبعد مسيرة طويلة وعسيرة في دروب السياسة والفكر، وبعد أن أدرك المرء أنه أخطأ التقييم يمن عليه الله تعالى ببعض البصيرة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَاِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. سورة الحج) فيكتشف أن بلادنا لا تعاني فقط من اختلال الميزان التجاري أو نقص في ميزانية الدولة، بل تكابد ويلات الأزمات السياسية والخلل الاجتماعي بسبب تراكم الخيبات وها نحن باسم الحداثة الدخيلة نستعد لجدل عقيم حول تعميق الخلل بين الرجل والمرأة بمناسبة مشروع قانون مفروض من الاتحاد الأوروبي حول الميراث مع إلغاء القوامة التي هي عماد الأسرة (رسالة الاتحاد الأوروبي الى حكومة تونس 14 سبتمبر 2016) فقد غفلنا منذ الاستقلال عن حقيقة نزول الميزان كما جاء في القرآن (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) أي العدل الذي لا يقام بدون التعادلية وقوله تعالى (الله الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فتأمل الحكمة من خلق الكون مثلا لو تدبره الانسان لوجد سر بقاء كوكب الأرض هو التوازن الدقيق في المسافة التي تفصل ما بين كوكبنا وبين الشمس التي هي سر بقائنا لأنه لو اقتربت الأرض من الشمس أكثر لاحترقت واستحال فيها العيش، ولو ابتعدت عن الشمس أكثر لتجمدت مثل قطبيها واستحال فيها العيش أيضا. فالميزان الالهي الذي وضعها في هذا المدار من الملكوت راعى التوازن والتعادلية حتى تكون الأرض كوكب حياة ممكنة لو احترم فيها البشر توازنات البيئة ونواميس الطبيعة فلم يعتدوا كما هو الحال اليوم على طبقة الأوزون التي تحمى الأرض من الأشعة المدمرة للحياة (كل في فلك يسبحون). فالتوازن الأكبر أي الميزان هو من سنن الله والاخلال به هو من خطيئة البشر. ولو تأملنا في معضلات المجتمع التونسي وترفعنا عن الصغائر السياسية والغرائز الانتخابية ورهن خياراتنا لقوى الخارج لأدركنا أن العلة الكبرى هي فقدان التوازنات الأساسية الضامنة لبقاء الشعوب واستقلال الدول ونحن إذا حللنا جذور الخلل الأول في خيارات مطلع الاستقلال بين مقتضيات الاصلاح الاجتماعي وضرورة الحفاظ على هوية الشعب ندرك أن الزعيم بورقيبة (ونحن أيدناه معتقدين أنها تدخل بتونس للحداثة !) كان ربما عن حسن نية يزرع تدريجيا وبتوجيهات من الاستعمار القديم المتجدد في تونس قيم المجتمع الغربي المستعمر لأرضنا من خلال قوانين الأسرة، إلا أن بورقيبة لم يواصل تلك المغامرة مع إفطار رمضان ومقاومة اللغة العربية كما فعل أتاترك في تركيا فعدل من موقفه تحت ضغط الشعب التونسي ولم يتجرد المجتمع من كل منظومته الدينية والاجتماعية ولم يمس الميراث. ثم على صعيد الاقتصاد نجد الخلل الجوهري في تفضيل السياحة على الفلاحة أي تغليب العارض على الأصلي وإهمال الثابت لحساب المتحول وتبجيل قطاع لا تتحكم فيه الدولة على قطاع يضمن رزقك ويمتعك بخيرات أرضك و يحقق اكتفاءك الغذائي لأنك تعيش على أرض كانت تسمى فى العصر الروماني مطمور روما ! و نجد في قانون المالية الأخير إعفاء السياحة من تسديد القروض في أجالها بل وإلغاء بعض ديون الفنادق وإعفاء أصحابها من تسديد فاتورة الكهرباء والماء وهذا الاجراء لا يوازيه التسامح ولو قليلا مع الفلاح حتى يتجاوز أزماته ! فيختنق المنتج الزراعي تحت وطأة المطالبات البنكية بالتسديد العاجل كما يرزح تحت ارتفاع أسعارالبذور و الأسمدة ! لأن هذا الخيار الخطأ تحول الى عقيدة دون أن ندري! ثم ان هذا الخيار الخطأ أوقع بلادنا في أزمة نقص المياه الصالحة للشرب لأن بعض الدراسات الجدية أكدت بأن السائح الواحد في الفندق التونسي يستهلك ما بين حمام الغرفة وما بين بركة السباحة معدل خمسة «أدواش» أي «شاور» يوميا وهو معدل استهلاك خمس عائلات تونسية متوسطة مما خلق أزمة في توزيع المياه ! ثم انظر الى المشاكل الاجتماعية في الخلل بين حقوق المرأة وحقوق الرجل وهي الطامة الكبرى فنقرأ في احصاءات الديوان الوطني للعمران البشري أن تونس سجلت عام 2017 أكثر من17000 حكم طلاق أي 45 حالة طلاق يوميا وأن الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج بلغ عددهم 1500 طفل بريء يلقى ببعضهم في الشوارع ملفوفين في خرق بل يموت بعضهم بردا وجوعا كما في الأسبوع الماضي! والغريب أن عددا من اليساريات المؤدلجات يسمين هذا (حداثة!) وهي حداثة دخيلة لا حداثة أصيلة أول ضحاياها المرأة التونسية نفسها وهي لا تعلم! متى نصحو على نذر الخطر الداهم ونتدارك المنزلق الخطير قبل أن نبلغ درجة التهلكة فبلادنا تحتاج اليوم الى زعامة لا الى رئاسة.