18 سبتمبر 2025
تسجيلقال الله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}، وفي الآية حكمة ربانية لعل العقل البشري لا يدركها إلا إذا لمس نتائجها، وقديما قال أبو تمام: قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت ** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم صدقت هذه المعاني حين عشت معكم منذ الخامس من يونيه تعاقب الأحداث التي فرضت على شعب قطر وتذكرون أننا في أول انطلاقها صدمنا بها من هول المفاجأة فلم نصدق أنه بلا مقدمات ولا تمهيد أعلنت ثلاث دول خليجية شقيقة ومعها مصر حصارا فوريا ضرب على دولة قطر برا وبحرا وجوا ولم تكن دولة قطر تلقت أي إشارة أو ملاحظة من المحاصرين من قبل وكانت الصدمة أقوى حين علمنا أن كل ما اتخذه المحاصرون من ذريعة هو تصريح مدلس لحضرة صاحب السمو اخترقوا به هم أنفسهم موقع القناة الإخبارية القطرية! لأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية يتخذ قرار بهذه الخطورة انطلاقا من اختراق قرصاني لقناة أنباء! وكما تعلمون تولت السلطات القطرية تكذيب الخبر وفضحت عملية القرصنة ومرتكبيها، لكن المخطط كان جاهزا والغايات معلنة وخارطة طريق المؤامرة محبوكة من قبل بعض القادة الخليجيين الجدد ممن أطلق عليهم عديد المسؤولين الكبار في الغرب نعت (المغامرين) ورغم عنصر المفاجأة وثبات نية الغدر كما سماها صاحب السمو، فإن دولة قطر سرعان ما أعدت خطة لإحباط ما يبيت لها من شر. ولا أخفي عليكم أني خلال هذه الأيام المائتين كنت بحكم عملي صلب الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية التي أنشأتها في باريس سنة 2007 أتنقل بين عواصم أوروبية وأقرأ الأصداء والتداعيات وأتصل بالزملاء الخبراء في مراكز البحث والجامعات وكل من عرفت من رجال السياسة وصناع القرار رغبة مني في فك طلاسم هذا الحصار الجائر غير المسبوق في التاريخ السياسي والدبلوماسي الحديث. وبالطبع كنت أجيب على استفساراتهم المشروعة حول المطالب الثلاثة عشر المقدمة من دول الحصار وبطلان التهم الموجهة إلى دولة قطر، وهم يعرفون أني عشت في هذه الدولة ربع قرن وأسهمت بقسط متواضع في تخريج أجيالها بالجامعة وتحملت فيها مسؤولية سفير لوطني تونس، وتشرفت بمواكبة نهضتها وكنت أمام أسئلة الزملاء في غاية الأريحية والصدق موضحا لهم أن ما قامت به قطر منذ تولى قيادتها حضرة صاحب السمو الشيخ حمد واستمر على نهجه صاحب السمو الشيخ تميم، إنما هو انخراط قطر بذكاء ووعي في نهج التقدم الحقيقي والتفاعل مع حقوق الشعوب وروح العصر ورفض الظلم والاستبداد اللذين كادا يؤديان بالعالم العربي إلى الخروج من دائرة التاريخ والحضارة، أي إن المستبدين لن يغفروا لقطر مشروعها الرائد لإعادة إعمار قطاع غزة والزيارة التاريخية التي كسر بها حضرة صاحب السمو حصار غزة يوم 23 أكتوبر 2012، وقبل ذلك إعادة إعمار جنوب لبنان ليستعيد عافيته، وزيارة الشيخ حمد للجنوب البطل المحرر من الاحتلال يوم 31 يوليو 2010 حين لقبه اللبنانيون بـ"الشريك في النصر". وتوجت تلك الملحمة برعاية قطر لمشاريع رأب الصدع بين الإخوة في اليمن ولبنان والسودان وليبيا وفلسطين، ثم رفض دولة قطر لعمليات وصم المقاومة الفلسطينية المتمثلة في حماس بالإرهاب، ثم إجارة من استجار بها من القهر والملاحقات من المناضلين العرب وأنا منهم حين لجأت للدوحة فاحتضنتني سنة 1992 وحمتني من اضطهاد الدكتاتوريات، ثم وفي طليعة ما لا يغتفر لقطر إنشاء قناة الجزيرة التي حققت منعرجا حضاريا في العالم العربي لا مجرد تغيير سياسي أو إعلامي. هذه هي الأعمال الصالحة التي لم يغفرها أعداء المستقبل واعتبروها عصيانا لنهج العمالة وإذلال الذات والرضا بالدون. إن كل مَن التقيت بهم من كبار الدبلوماسيين الذين عرفوا إقليمنا وخفاياه يقرون أن أسباب الحصار هي بكل بساطة رفع الرأس في محيط أراد له آخرون أن يحني الهامات لغير الله. وهذا ما يفسر كيف لم تنطل على الرأي العام الغربي ولا على نخبته تلك التهم، بل على العكس تماما.