12 سبتمبر 2025
تسجيل«شبعنا من عناهم وارتوينا وعند رسوم منزلهم بكينا ونادينا وقلنا خبروهم ترانا من محبتهم نعينا وثرنا من مفارقهم نحلنا وكان فراقهم طاول؟ فنينا.. « هأنذا أقف على ساحل فويرط تلك البلدة الوديعة التي تقع في شمال شرق دولة قطر، عائدا إلى سنة ١٩٠٧م مستشعرا معنى الأمل والألم، أما الأمل فهو عندما سُمِعت صرخات ولادة شاعر (محمد بن عبدالوهاب الفيحاني) سوف يكون لصوته دَوِي، وأما الألم فهو عندما توفيت والدته الرؤوم في ذات العام الذي وُلِد فيه فنشأ يتيمًا، هاهو محمد بن جاسم يمشي منعزلاً على سِيف الشاطئ، يطرب سمعه تلاطم الأمواج، ويمتع ناظره الأفق اللازوردي، ومن تحته السفن التي تمخر عباب البحر، ويصيخ سمعه لصوت النهام الذي يخترق المدى بـ «يا مآل» التي يصب إيقاعها الموسيقي في أذنه المرهفة. أما أنا فإني أنقل عيناي في البحر الخالي من السفن الخشبية، حيث لا سنبوك يمر، ولا جالبوت يعترض، ولا شوعي يعبر، ولا طواش ينادي، ولا نهام يغني، ولا قلاف يصنع. إذ إن هذا كله انتهى بعد سنة كارثة الطبعة في عام ١٩٢٤م وقضى على بقيتها اختراع الؤلؤ الياباني المصنع في عام ١٩٢٥م حتى دخلت قطر في سنوات عجاف استمرت إلى عشرين عامًا أصبح فيها التاجر فقيرًا، والفقير معدمًا، وها هي أسراب الناس تغادر البقعة الجغرافية القاحلة بلا عودة إلى البحرين والكويت والسعودية وغيرها من البلاد. لم يمكث الشاعر سنتين عند خالته التي سارعت في احتضانه، وبادرت بإرضاعه إلا وتخطفتها يد المنية ليصاب بخيبة أمل أخرى. أحس الفتى الصغير بعدها بغربة روح على إثرها نزعت نفسه إلى العزلة فهو لا يريد أن يتكلم كثيرًا ففي نفسه ما يكفيه، وفي صدره ما يكويه. تمضي الأيام بجنازرها على بؤسه وألمه دون مراعاة لصغر سنه إلى أن اشتد عظمه، وطر شاربه وها هو يحزم حقائبه متوجهًا إلى دارين ثم إلى الكويت لكي يطلب العلم في المدرسة المباركية (المدرسة الأولى في الخليج) وأخذ خلال دراسته يتلقف الكتب بنهم شديد، فهو يقرأ في التاريخ واللغة والأدب والشعر، وقد أُعجب بشعر المتنبي. وبينما هو على مقاعد الدراسة منكبًا على تلقي العلوم توفي والده في الهند وقد كان من تجار اللؤلؤ في الخليج، وعندما أنهى دراسته عاد إلى قطر بثقافةٍ بز فيها أقرانه، وتجاوز بها نظراءه، فقد ذكر في ثنايا قصائده معلومات كثيرة ومعارف واسعة لا يلم بها ولا يعرفها إلا من تعلم تعليمًا مميزًا. وكان يتزيا بزي أهل العلم حيث إنه يلف فوق غترته عمامة بيضاء ولكن سرعان ما خلعها، ووضع بدلاً منها العقال الأسود قائلاً: « قلبي عن الغي في صندوق ومحكماتٍ لواليبه مفادَه الصبر قام ايْتوق من حب سيد رعابيبه! « لم تغب عن باله لحظة، ولم تُنسَ من ذاكرته برهة، فقد ظلت في قلبه تلك الأنثى الرعبوبة التي عرفها في مراتع صباه، وأحبها في أول أيامه. فهو عاد لساحله الذي تكون على لطمِ موج بحره، وعَشِقَ على صوت نعيق نورسه، وعاد إلى أنثاه الأولى والأخيرة: « بليت بحبها طفلٍ فطيمه من اول شبتي، واول صبايه ولا وصلٍ لتنزيه الكريمه ولكن المحبه من شقايه وطال الشمل ما لمت حَزيمه ولا وافى نبا «ميٍ» نبايه قضى الديان دينه من غريمه وانا يا «مَي» عندك وش خطايه لكنْ بالبلا اللي بي غشيمه ولا عندك بهيماتي درايه ولا أنتِ من تِلافي مستليمه ولاني منْك سالم من عنايه! علامك بالجفا دُوبك مقيمه وعودك ما يلين مْن اعتوايه ! تُقرأ «اعتوايه» هكذا باللهجة القطرية وليس «اعتواجه» كما يُقال في نجد، وما نقرؤه في الكتب حتى لا تختل قافية القصيدة، وقد كان الشاعر حريصًا على شعره.