13 سبتمبر 2025

تسجيل

الفيحاني.. ورقة حب مطويّة 2-2

02 ديسمبر 2023

استمراراً لحديثنا عن الشاعر محمد بن عبدالوهاب الفيحاني، فإن ما يذكره صديقه الراوي جبر بن جمعة الكوّاري أنه كان جالسًا معه في مجلسه مع مجموعة من المقرّبين فقرأ أحدهم قصيدته المربوعة التي يقول في مطلعها: «من الفرقى عساها للنّفادي ألا يا صاحبي ومن البعادي» فلما وصل إلى البيت الذي يقول فيه: « أنوح من الجوى وأقول فرقا كما ناحت من العلّات ورقا» فقرأ «الجوى» خطأ، فقال: «الجو» فقام الفيحاني فقال: أعطني الأوراق! وصاح بأصدقائه: تعالوا وانظروا ماذا يفعل هذا بقصيدتي، لقد كسر البيت. ثم التفت إلى جبر فقال له: « أتريد بعد موتي أن يقول الناس عن ابن عبدالوهاب ليس بشاعر «! ولكن على علوّ كعبه في الشعر، وشهرته الواسعة التي ملأت الأرجاء، لم تنتظره قليلاً هذه الرعبوبة. وهذا بسبب ما فرضتها عليها التقاليد الاجتماعية آنذاك، وفي القديم كانت البنت تُجبر على الزواج من ابن عمّها سواءً كان جيدًا أم رديئًا وهذا بسبب أنهنّ قلائل، وكانوا يشحّون بهنّ على الغريب. وبطبيعة الحال هاهي «مي» تحزم حقائبها، وتجمع أغراضها، وتشدّ رحالها مع زوجها نحو المجهول لتنكأ في صدره جُرحًا لن يندمل شقّه، ولن يتوقّف نزفه: «عمّن ترحّل سالي الدار يا عين استعلميها وانشدي يا حزينه قولي هلك يادار منّك غدو وين ؟! من بك وقف يَنْشدك ما تخبرينه ؟! هل ترتجيهم هم على الأرض حيّين لَوْهُم مع من في المقابر دفينه قالت: حشا.. ماهم تحت الارض فانين امس الضحى عنّي غدوا بالضعينه يومك تراهم يا « محمّد» مقفّين عنّك.. ولامَا عشْرتك زاهدينه راحوا وهم يا ولد «جاسم» معيفين ما أظن هم لك بالوصل مِنتوينه قلت: اسكتي! من ذا الخبر بس تكفين يا دار نقّضتي جروحٍ دفينه! هذا الخبر يا عين هلّي نظيرين بالك لدمعك عقبهم تذخرينه ابكي على لامَاه حتّى تذوبين يمكن تروف قلوبهم يا فطينه »! يوصي عينه سريعة الانهمار على البكاء وهي التي لا تحتاج لزجر، ولا تنتظر عَصْر، فهو كما أخبر عن نفسه: « كلّما كفّيت صوبٍ سال صوب لين قرّح جفن عيني من بكاه » ولكن هذا كلّه في سبيل من لم يهتم لأمره بل إنه ينام الليل دون أن يقلقه هم، أو يتعبه غم: « هاضني وأحدث شجوني حبّ ناسٍ ما يبوني يرقدون الليل كلّه والسّهر قَطّر عيوني » ! ويقول أيضًا: « تكلفنا وهم عنّا براحه تعذّبنا وهم عنّا غافلينا » ولكن هذه طبيعة حالهم يرحلون دون إحساس ينبّههم، ولا ضمير يؤنبهم، ولا شعور يوقظهم، وكأننا مشيّدون من طوب وأسمنت ولم نخلق من لحم وعظم. يرحلون وكأنهم لم يكون أول الطموح، وآخر الآمال. ولكن هذا البرود لم يجعل شاعرنا يكفّ، بل كان يُرى متأبطًا لديوانه، واضعًا قلمه الرصاص خلف أذنه. كان يكتب والألم ينهش صدره، والهم يفتّ عضده، حتى نحل جسمه إلى أن تبيّنت عظام معصمه، وأصيب بالأمراض المستعصية على العلاج، فكأنما يقول: « إنْ رُمْت إصلاحي فإني لم أُرِدْ.. لِفَسادِ قلبي في الهوى إصلاحا « كما قال قيس قبله. « قصّت حبالك من عقب وصلها (مَي) واستبعدت من عقب ماهي قريبه ومن المحبّه ما بقى عندها شي صارت عقب ذيك الصّداقه حريبه! ولا هقيت ايْعود لي ذلك الفَيْ هيهات مرجوع القمر من مغيبه الّا تعود عصور شدّاد وَلْوي والّا الصّبا يرجع لعودٍ وشيبه! » وشاعرنا مثل البحر الذي عاش بجواره، واسع الأطراف، بعيد الغور، لا يُدرك كنْهه، ولا تُعرف خوافيه. يرحل بمن حلّ في ثبجه، وخاض معتركه، ولا يبخل بلآله، ولا ينأى بجواهره، ولا تنضب أسراره، ولا تُعدم خيراته مع مرور الأيام، وتقادم الأعوام. « بحري غزيرٍ ماكشف بالقراحي لاهوب رقراقٍ.. ولا هوب ضحضاح ماشيْف له بالعين لاحي وشاحي لاصكّ به غيصٍ، ولا طاف سابح » كما أنّ لكلّ بداية نهاية، ولكل نهار ليل، هاهو شاعرنا وهو على فراشه الأبيض بمستشفى الإرسالية الأمريكية بالبحرين يُخَبّر بوفاة محبوبته، وكانوا يظنّون أنه عندما يعلم لن يفكّر بوصلها بعد اليوم، ولعلّه ينساها بعد اليأس منها « واليأسُ إحدى الراحتينِ ولن ترى.. تعبًا كظنّ الخائبِ المكدودِ « ولكن هذا من وجهة نظرهم ونظر البُحتري، وأما شاعرنا لم يريحه يأس، ولم يؤنسه عزاء، بل تضاعف عليه الألم، حيث تفجّرت جروحه، ونزفت دماه، ولم يعِش بعدها إلا أيامًا معدودات. يقول بعدما سمع الخبر: « ما سمح قلبي يروح ولا يرى زول محبوبه.. ولو هو من بعيد! لو يبين من الجبل لي من ورا ديرته تطفي لهيبٍ به وقيد آه واويلاه يا ليته درى كيف حبّه في حشى قلبي يزيد » رحلت وتركت خلفها ذكرى تحيط به من كل جانب، وندبات في صدره لا تمحيها الأيام، ولا تزيلها الأعوام، فهو لا يعرف إلا مي، ولا يسكنه إلا مي، ولا يتذكر إلا مي، وهاهي مي قد رحلت من دنياه الفانية إلى أُخراها الباقية. المراجع: محمد بن عبدالوهاب الفيحاني لعلي الفيّاض وعلي المنّاعي. في رحاب التراث الشعبي القطري لعلي الفيّاض.