13 سبتمبر 2025

تسجيل

آخ يا وطن المرهقين الحزانى!

24 أغسطس 2015

جلست أحدق ملياً في الشاشة البلورية في أمسية الخميس، العشرين من أغسطس الجاري، محاولاً تبين وجوه وقسمات الذين كونوا ذلك التجمع المقدر من السودانيين والسودانيات الذين تداعوا لحضور ما سمي باجتماع الجمعية العمومية للحوار الوطني السوداني. عرفت منهم من هم في درجة الآباء والإخوان بحساب الأعمار، حدقت ملياً في الوجوه التي جلست في سكينة وتبوم وهم يستمعون إلى المنصة وبعض خطبها التي سبق أن سمعوا مثلها كثيرا، لا جديد فوق المنصة أو تحتها، تحديقاتهم المبهمة لا تقول الكثير، بضعة عشرات تنادوا إلى القاعة البهيجة وقد اختيروا لمهمة (إعادة اللحمة) الوطنية لشعب السودان كأعضاء في لجان الحوار الوطني، هكذا أسماهم أحد المتحدثين الحالمين بالمستحيل. قلت في دواخلي: يا شيخ خلي عنك! بعد ربع قرن من الزمن والعناد، عاد النظام ليتعشم خيرا في هكذا جمع، ليهيئ له ملاذا يحتمي فيه من غلواء همومه ومهاويه، البادية منها والخفية، التي باتت تحاصره، وتقض مضاجعه، يستنصر بهم في الساعة الخامسة والعشرين من سيناريوهات حسني مبارك، والطاؤوس البطر، وزين العابدين بن علي، والمخلوع علي صالح. استمعت بوجدان مبعثر إلى خطاب الرئيس وهي حالة نادرة جدا عندي، فشخصي الضعيف لا يعد أيام الشهر الذي ليس لي فيه نفقة. لغة ودودة في الخطاب الرئاسي خلت هذه المرة من العنتريات والعفص تحت الجزم والأحذية، وبل الأوهام وشراب مويتها، ومن لحس الكيعان. وجاءت في مكانها كلمات مفعمة بالرجاءات النبيلة، شاقني ما سمعت في حالة نادرة عندي كذلك، فشخصي الضعيف لا يعجبه عجب هؤلاء القوم، ولا حتى صيامهم في رجب إن كانوا يصومونه بصدق، شخص شكاك لا يصدق ما يقال له هكذا سمبلة، ولكن شاقني أن أسمع تلك التنويمات المغناطيسية من نفس الشخص الذي كان يرفع رأسه إلى جوف السماء، يشويم، على لغة الحبوبات، محدقا في قرص الشمس، في جوف الشهب يبلغ الدنيا من حوله بأنه لا يحاور إلا الذين يرفعون السلاح في وجهه، يقولها في الضحى الأعلى أنه أخذ الأمر غلابا ومن يرده منه، فعليه أن يحمل سلاحه في الضحى الأعلى كذلك ويتقدم إلى ملاقاته في ساحة الوغى، ماذا دهى العميد حتى يرخي سدوله. يقول إنه لم يفعل لذلك عن ضعف، دعونا ننخدع له، ولا نجادله هذه المرة، أعراض وأمراض الشيخوخة والفشل تكفيه وتكفينا، والدنيا تشيح بوجهها عنه، ولم تعد تدنيه إليها، فكان لزاما وجزاما أن يكون مما ليس منه بد. ضرب الأخماس في الأسداس ثم الاهتداء إلى طريق جديد بعد أن راحت كل الطرق القديمة في (بيت ألمى) على لغة أهلنا البقارة المفطومون على الفصاحة ظاهرها وباطنها، هكذا جاء يرمي شباكه في بحر الذين أقصاهم بالأمس بمئات الألوف، يقربهم إليه بعد ربع قرن من التغريب، يستقوي بهم على غلواء المحن التي صنعها للجميع من العدم في أمسهم القريب، هل انقلب السحر على الساحر؟ وهل طاشت السكرة وجاءت في مكانها الفكرة حتى قدر النظام أن ضحاياه سوف يمسحون جراحهم ولا يغنون مع سامر الحي القديم: يا كبرياء الجرح إذا متنا لحاربت المقابر! ونعود إلى أول السطر: حوار وطني، نعم. ولكن بعد الوقوف عند موقع الذين شق الرصاص بطونهم أولا. أو الذين علقوا في المشانق، تلك هوة أعمق من كل الأماني والأحلام الصغيرة، ولكن لا بأس من أن يحلم الحالمون! لـ"أخ يا وطن المهزومين الحزانى!".