12 سبتمبر 2025

تسجيل

متاهة الأعراب (2)

24 يوليو 2015

متاهات العرب كثيرة، ولكن المتاهة الأكبر تبقى دائما فقدان الرؤية وعدم وجود بوصلة تحدد الاتجاه بشكل صحيح، مما يجعل من العرب دائما أمة على حافة الهاوية. وإذا كان العلاح يبدأ بتشخيص الداء وكشف العلل، ومن ثم البحث عن ترياق مناسب، لمعالجة هذه العلل من جذورها، وليس معالجة مظاهرها الخارجية، من خلال إجراءات شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن هنا فإن تشخيص العلل والبحث عن العيوب لا يعتبر جلدا للذات، وإنما وسيلة للخروج من المأزق التاريخي للعرب عبر اجتراح حلول ممكنة ومبدعة في نفس الوقت. لُب مأساة القضية العربية في العصر الحديث يبدأ من التركيبات غير المعقولة في المشهد الجغرافي المصطنع وغير الحقيقي، وهي تركيبات وقعت على العرب، وتم هندستها في مختبرات القوى الاستعمارية، التي استخدمت خلطة من دراسة التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع ورجال الدين وعلم النفس والاستشراق المطبوخة في "طنجرة المؤامرات"، لتفكيك الوطن العربي وإحلال ما يسمى "الشرق الأوسط"، باستخدام أدوات محلية من نخب مزيفة تصنع على عين المستعمر، تدين بدينه الاستعماري، حتى لو كانت تحمل أسماء وسحنات عربية. ولهذا فإن بداية تفكيكك الوطن العربي بدأ من صناعة النخب المزيفة المتغربة والتي تعاني من الاغتراب في المجتمع العربي، وتشمل هذه النخبة المثقفين من الكتاب والصحفيين والإعلاميين والروائيين وفنانين ورجال دين ورجال أعمال وضباطا عسكريين ونخبا سياسية وجمعيات نسوية ومنظمات مجتمع مدني ومراكز بحثية. ويكفي قراءة كتاب الكاتبة البريطانية فرانسيس ستونز سوندرز "من الذي دفع للزمار.. الحرب الثقافية الباردة"، ليجد أمثلة كثيرة بالأسماء التواريخ، لكيفية صناعة "النخب المزيفة" وتلميع أعضائها لكي يتحولوا إلى نجوم وقادة في المجتمعات والدول. لقد أثبتت الثورات العربية أن غالبية النخب العربية فاسدة ومتعفنة، وأنها تعيش حالة اغتراب عن المجتمعات العربية، بل ذهبت بعض هذه النخب الفاسدة إلى شتم الشعوب العربية ووصفها بأنها "زبالة" ولم يتورع بعضهم عن وصف الشعوب العربية بأنها "غير مؤهلة"، وأنها تحتاج إلى "وصي" وأن العسكر والضباط هم "الأوصياء المثاليون" على هذه الشعوب حتى تبلغ رشدها، هذا إن بلغت أصلا من وجهة نظرهم. وهي لن تستطيع ذلك مهما حاولت لأنهم لا يرون في العرب إلا أمة "معاقة" لا تلوي على شيء. الفضيحة الكبرى التي كشفتها الثورات العربية أن هذه النخب الفاسدة "مصنوعة في معامل أجهزة الدولة"، وأنهم ليسوا أكثر من "الواد ده .. والبت دي".. على رأي الجنرال عباس كامل، مدير مكتب السيسي.. وأخطر ما في هذه الفضيحة أنها لم تترك مجالا لهذه النخب المزيفة والمصنعة للاختباء خلف الدعايات والدعوات الدينية والثقافية والفنية والصحفية، لأنها أجبرتهم على كشف وجوههم الكالحة والاعتراف أنهم مجرد "مخبرين" صغار في آلة الدولة العميقة التي تنفثت سمهما عن طريقهم، لشل حركة المجتمع وتزييف وعيه وإخضاعه وتحويله إلى قطيع. وقد قامت هذه النخب المزيفة بهذا الدور منذ المرحلة الاستعمارية المباشرة وصولا على الاستعمار غير المباشر للوطن العربي، وعملت على تفتيت الجغرافيا العربية وشرذمة المجتمع العربي وتحويل الوطن العربي إلى "حالة" بلا مشروع، لا تسير إلا إلى الخلف في اتجاه هاوية الدكتاتورية والتخلف والتبعية والاقتتال وسفك الدماء وصناعة التطرف، وهي مكونات "الخلطة السرية" للقضاء على الأمة العربية.