14 سبتمبر 2025
تسجيلالحمد لله أن تحركت الهيئة العليا للإعلام في تونس يوم الجمعة الماضي لإرسال لفت نظر لقناتين تلفزيونيتين هما الوطنية الأولى وقناة نسمة في شأن برنامج (الكاميرا الخفية) طالبة منهما احترام مشاعر فئات من المشاهدين وخاصة الأطفال أمام سيل من العنف المجاني المتدفق بالرعب والهول ولكن الهيئة الموقرة قصرت فهي لم تقل ما يجب أن يقال لحماية الضحايا المساكين والمغرر بهم وجمهور المشاهدين في هذا الشهر الفضيل بقصد تجاري بحت لأن منتجي هذه الأعمال يبيعونها للقنوات وأصبحوا يتزايدون ويتسابقون من الذي يبدع أكثر في الإثارة والفزع ونصب الفخاخ للإيقاع بنجوم في السياسة أو الثقافة أو الفنون في برامج سموها (الرهينة) و(البراكاج) يعني الهجوم المسلح بقصد السلب والنهب. وأذكر أنه خلال السبعينيات وفي مطلع وراثة عرش مصر من قبل المرحوم محمد أنور السادات فوجئ الرجل بظاهرة إعلامية سياسية جديدة لم تكن موجودة في عهد جمال عبد الناصر وهي ظاهرة انتشار المس من أعراض الناس وهتك خصوصياتهم والغيبة من وراء ظهورهم فسأل السادات عبد القادر حاتم وزير الإعلام وأبوالخطط الإعلامية لثورة يوليو وثورة التصحيح : قلي يا عبد القادر ده كلام يقع تحت طائلة القانون أولا؟ فأجابه : لا يا ريس دحنا ميش قادرين نثبت تهمة الثلب لأن اللي يكتب الكلام ده ذكي ويعرف إيجاد المعاذير ويتخفى وراء ضباب العبارات فقال الريس اسمعني يا خويا ما نسن قانون جديد نسميه قانون العيب لأن العيب عكس بنود القوانين أمر متفق عليه من كل فئات الشعب المصري والشعب يعرف معنى العيب ولا يرضاه لنفسه ولا لغيره. وفعلا صوت مجلس الشعب على قانون العيب كاستثناء عربي ولعله خالف القانون في منطوقه ولكنه لم يخالفه في روحه وفلسفته. هذا زمن السادات أما الزمن العربي البائس الذي نعيشه رغم مكاسب التحولات الكبرى فهو زمن (كل شيء ممكن مادام لا يقع تحت طائلة قانون!) ولذلك نطالب في تونس ومصر بالخصوص بقانون العيب. فالذي يقع في تونس أمر غريب فتحت شعار حرية التعبير وإطلاق أيدي المنتجين في القنوات التلفزيونية (وهم أصحاب شركات تجارية رابحة لتزويد القنوات بالبرامج.!) في كل ما يجول بخيالهم من تصورات لبرامج يزعمون أنها هزلية ومسلية فإذا بالجمهور التونسي خلال شهر رمضان المبارك يكتشف (كاميرا خفية.!) تشكل مسلسل رعب يرتجف منها الأطفال وضعاف القلوب والنساء الحوامل في لحظات الإفطار والاستعداد للصلوات فيها أنواع من الخيال المريض لتنظيم (مقلب) يوقعون فيه رجلا أو امرأة من الوجوه المعروفة في عالم السياسة أو الفن أو الإعلام نفسه فيجد الضحية نفسه في كمين نصبته عصابات مسلحة وملثمة ويقبض بالفعل على الضحية وهو بين الحياة والموت وزوجته تستغيث طالبة الرحمة وأحيانا ويا للهول أمام أعين أطفاله فيهان ويضرب ويصفع (طبعا في كنف حرية التعبير وخيال المنتج الحر!ولتسلية المشاهدين) ويؤمر من قبل مجموعة من الصعاليك المدججين بالسلاح أن يتمدد على الأرض بل أن يسب أم عياله وأن يهين نفسه خوفا من بطش من لا يخاف الله. وفي برنامج من نفس (الكاميرا الخفية) اسمه الرهينة يؤخذ الضحية بالقوة والعنف ويؤمر أن يقول لزوجته (إخرسي يا أفعى!) وفي برنامج من نفس المستوى الهابط اصطنعوا زلزالا وأجبروا الضحايا على الخوف من انهيار السقف على رؤوسهم وعلى توقع النهاية تحت الأنقاض ورأينا تونسيين من أفضل رجالات تونس ونسائها يهربون تحت الطاولات ويحتمون بالكراسي من انهيار السقف بل ويجرح بعضهم بالزجاج المهشم (مثل الصحفي علاء الشابي الذي أصيب بجروح في يديه) أمام ضحكات المخرجين والشركاء في صناعة هذه المهازل وأمام امتعاض جمهور المشاهدين وارتعاد فرائصهم. إنه انحطاط في الذوق العام وإهدار لكرامة بني آدم وشراء للضحك الرخيص الذي يشبه البكاء لو بقيت في الضمائر بقية من وعي. وفي هذه الحالات الغريبة رأينا ثبات بعض مشائخنا الأفاضل واكتفاءهم بالشهادة استعدادا لمقابلة الخالق فيما راح منظمو هذه المهازل يطربون بالرعب الذي زرعوه وبالغبن الذي بلغوه مزهوين بهذا العمل. وبدأت الصحف الجادة والمنظمات المدنية تندد بهذا المستوى من الإسفاف ومنها رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان لأنه بالفعل أهينت حقوق المواطن وديست كرامته بل وصرخ أحد السياسيين سمير بن الطيب عضو المجلس التأسيسي بأنها مؤامرة من خصوم سياسيين للحط من أقدار منافسيهم وإضحاك الجمهور عليهم تحت ستار حرية التعبير أو إبداع المقالب. وفي مصر لا يختلف الأمر عن الرداءة التونسية حين نرى على الشاشات عمليات سخيفة للإيقاع بفنانين وفنانات (آخرهم هيفاء وهبي) في مقبرة فرعونية موحشة وموصدة ملأوها بالثعابين والمومياء المتحركة مما يهدد حياة المساكين الضحايا بالسكتة القلبية أو بانهيار عصبي لولا رحمة من رب العالمين جعلتهم يصمدون أمام هذه المسرحيات المرعبة والكوابيس المفزعة بل ويحولون حالات الرعب إلى ضحك مع الضاحكين على ذقوننا إخفاء للبهدلة. هل شاهد هؤلاء "المبدعون المزيفون" حلقات بريطانية وفرنسية من (الكنديد كاميرا) التي تجمع بين التسلية والضحكة اللطيفة وعدم الإضرار بالضحية باحترام صورته الحميمة وحقوقه الشخصية وصحته البدنية والنفسية؟ وهل قرأوا ميثاق الشرف الإعلامي والاتصالي الذي وضعته منظمة الأمم المتحدة لتقنين وعقلنة البرامج التلفزيونية ذات الطابع الترفيهي والعلاقة التي يجب أن يحترم الجميع نواميسها بين المنتج التلفزيوني والمواطنين؟ وهل أدرك هؤلاء المتهورون أن كرامة الناس ليست لعبة وأن الإرهاب ليس محورا للتسلية؟