14 سبتمبر 2025
تسجيلأصبح هاجس الهجرة السرية اليوم هو أولوية قصوى للدول الأوروبية وتقرر في الاتحاد الأوروبي أن تخصص له قمة أوروبية تنعقد بعد أسابيع في جزيرة مالطة وربما يدعى إليها رؤساء الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط لأن المعضلة في الحقيقة مشتركة بين ضفتي البحر المتوسط فأصبح خندقا عميقا ورهيبا يفصل بين عالمين مختلفين لكل واحد منهما هموم خاصة وحالات اقتصادية واجتماعية مختلفة ورؤى مستقبلية متناقضة. وهو أصل المعضلة. وحين نريد إيجاز المعضلة في بعض الحقائق والإحصاءات نقول إن سنة 2014 سجلت هلاك 980 شابا وشابة في مقتبل العمر ركبوا البحر من سواحل ليبيا أو تونس أو الصومال أو المملكة المغربية على قوارب صيد أو مراكب نجاة بسيطة وهشة وتوجهوا بقيادة سماسرة إلى سواحل الجنة الموعودة فوقع ما كان متوقعا وهو غرق الشباب التائه في البحر وصدق الصحفي التونسي حين رسم رسما على صفحات يومية ينقل فيه مأساة هؤلاء الضحايا وكتب تحت الرسم (عجزت الحكومات عن توفير لحم السمك للبشر ولكنها نجحت في توفير لحم البشر للسمك) هنا تكمن الفاجعة ونجد أصل المأساة فالحكومات جنوب المتوسط تعاقبت وحكمت وفسدت وأنهكت ثم انهارت عديد الدول بمؤسساتها المنخورة بدود الاستبداد وداء الفساد وتمسك بعض من أوصلتهم الانقلابات بالسلطة عقودا حتى ملتعم شعوبهم بينما كانوا يورثون أو يستعدون لتوريث كراسيهم لأولادهم ووقعت انتفاضات أعقبتها انتفاضات مضادة وخسرت شعوبهم زمنا طويلا في فوضى خسرت فيها أكثر مما ربحت وضلت أكثر مما اهتدت وتفاقم الخطب وتفككت الدول وضاع الشباب العاطل بعد أن عقد الأمل على الخروج من الأزمة ولم يجد عشرات الآلاف منهم أمامه سوى طريقين للخلاص الموهوم: إما التوجه نحو الموصل أو طرابلس أو دير الزور أو تعز ليتحول إلى عنصر عنيف أو التوجه نحو جزيرة بنتليريا أو جبل طارق ليلقي بنفسه في شواطئ مهجورة تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي. هنا نرى أن الطريقين ليسا طريقي أمان أو نجاة بل هجرة للشمال بحثا عن عمل ومعنى لحياة وإصرار على البقاء حيا عوض الموت البطيء في مقاهي الأحياء الفقيرة والمناطق المهمشة والبلدان الملعونة بالفقر والجفاف وسوء الإدارة! اليوم نحن على مفترق طرق عجيبة فالاتحاد الأوروبي يريد حلولا لا تقل وهما عن حلول الشباب الضائع الحكومات الأوروبية قررت إنشاء قوة عسكرية مشتركة لم يتفق قادتها على تحديد أهدافها ولا عقيدتها العسكرية فهل هي ستدك سواحل الجنزب المشبوهة بالتهريب البشري وكيف ستضرب أهدافا معقدة وغير محددة؟ ومن سيموت تحت قنابل أوروبية المهاجرون المساكين وأولادهم أم فقط السماسرة المهربين وتجار المأساة؟ ومن سيكون في قيادة القوة لينجز المهمة المستحيلة. الاتجاه تقرر أن يكون في الاتفاق والتنسيق مع البلدان المصدرة للهجرة ولكن سوء التفاهم القائم نجده كاملا بين دول أوروبا التي كانت مستعمرة للشعوب نفسها الرازحة تحت نير الفقر والجوع والفوضى وبعض حكام العرب والأفارقة يحملون اليوم تفاقم معضلاتهم لدول أوروبا فهي التي استعبدت تلك الأمم حوالي القرن واستغلت خيراتها لإثراء القارة الأوروبية بل إن شباب العرب والأفارقة في القرن الماضي في الحربين العالميتين الأولى والثانية أجبروا على خدمة عسكرية وحملوا للجبهات ضد النازية الألمانية ليكونوا وقودا للحروب الأوروبية الأوروبية ولا ناقة لهم فيها ولا جمل فمات مئات الآلاف من المغاربيين المسلمين وأبناء القارة السمراء على مدى حربين رافعين علم فرنسا المثلث وعندما أسهموا بقسط عظيم في تحرير التراب الفرنسي من الاحتلال النازي وانتهى القتال بانتصار الحلفاء على الفاشية سنة 1945 جوزيت شعوبنا جزاء سنمار واستمر الاستعمار الغاشم على أمتنا وعرفنا ويلات القتل والتهجير والتفقير واغتصاب الأرض والعرض على أيدي من أصبحوا صليبيين جددا بدعوى تمديننا! سبحان الله ونجد أنفسنا سنة 2015 معرضين لقوة أوروبية مشتركة تبرمج لمخططات بهلوانية بحجة وقف تيارات الهجرة السرية وقد دلت الإحصاءات على أن عدد المهاجرين الواصلين للسواحل الأوروبية بلغ سنة 2014 ونصف 2015 ما يقارب 100 ألف. ثم تعالت أصوات من السياسيين الأوروبيين العقلاء تنادي بحلول إنسانية أي برمجة استيعاب دول أوروبا لأعداد معقولة الكفاءات العربية والإفريقية لتصبح هجرة هؤلاء الشباب شرعية تندمج في الدورة الاقتصادية للدول المتقدمة هناك ولكن المقترح السليم إياه لم يجد أي مشجع عليه والسبب هو الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة أيضا على الساحل الشمالي وأوصلت بلادا مثل اليونان إلى الإفلاس كما أوصلت إسبانيا وإيطاليا إلى حافة الخروج من منطقة اليورو لولا الدعم الألماني بمليارات اليوروات وهو ما يقض مضجع الشعب الألماني وأحزابه اليمينية التي ضاقت بإعانة من يسميهم الألمان بالكسالى والضعفاء من أعضاء الاتحاد الأوروبي! أما بعض الحكومات العربية والإفريقية فهي تطالب ببرنامج مثيل ببرنامج مارشال وهو ما أنجزته الحكومة الأمريكية غداة الحرب الكونية الثانية لضخ أموال طائلة في اقتصادات الدول الأوروبية التي شاركت في هزيمة العدو الألماني الإيطالي الياباني المشترك. وكيف لا يحق لشعوب عانت ويلات الاستعمار قرنا أن لا تطالب على الأقل بتعويض القرن الرهيب ببعض المعونة في تنمية اقتصادها وتشغيل شبابها. والتهديد القادم من فقر البلدان الجنوبية أصبح يطال دول الشمال بصورة مباشرة متمثلا في تفاقم الإرهاب في عقر دارها ونزوح عشرات الآلاف من فقراء الجنوب لجنتهم الموصدة. والملاحظ أن مخطط إقامة جدار طوله 178 كيلومترا قررته دولة المجر عضو الاتحاد الأوروبي المرفه بينها وبين صربيا غير العضو هو مؤشر خطير لما ينتظر بقية الدول الأوروبية لعلها أيضا تفكر في حلول نهائية من النوع نفسه فأسبانيا مثلا أقامت جدارا بين مدينتي سبتة ومليلة وبين المملكة المغربية رغم أن هاتين المدينتين محتلتان من إسبانيا وتقعان في قلب المغرب ومسكونتان من قبل مسلمين مغاربة وهو من باب الاستخراب لا غير تمام كالاستخراب الصهيوني لفلسطين. فالجدران ربما تتكاثر لتزيد العالم فواجع الفرقة والصدام والعنف! اليوم نقول هل منهم ومنا من يحمل أمانة المصير بحكمة وهل فيهم وفينا رجل رشيد لأننا مهما كانت تحليلاتنا لأوضاعنا ومعضلاتنا فإننا مشتركون في السراء والضراء ومصيرنا واحد حين نتخلى نحن عن سياسة الهوان واحتقار أنفسنا والخضوع لإملاءات الغرب ومصالحه وحين يتخلى الأوروبيون عن سياسة التركيع وفرض خياراتهم على نخبنا المتمسكة بأهدابهم وأهدافهم. أما حين نقبل ونرضى بالتبعية فإن شبابنا نفد صبره وتحول إلى قوة إرادة ما كان أحرى أن نتسمع إلى تطلعاته وآماله ونحقق له ولبلادنا ما تطمح إليه من حريات أساسية وحقوق مشروعة.