14 سبتمبر 2025
تسجيللم يكن الصحفي والإعلامي أحمد منصور يتصور أن أعدادا كبيرة من البشر سيتدافعون على السيارة التي أقلته فور إطلاق سراحه من سجن في برلين، بل لم يكن يتوقع أن في يده من البركة ما جعل عشاق صوت قناة الجزيرة الحر يتهافتون للسلام عليه ولو بلمسة خاطفة وسط الزحام، ذلك مشهد تاريخي أثلج صدور من امتهنوا الصحافة كقيمة إنسانية تُعلي من شأن الحقيقة والكرامة وتنحاز إلى الإنسان أيا كان معتقده أو عرقه أو لونه أو موطنه، وهي قيم كرستها رسالة الجزيرة لنحو عقدين من الزمن في مجتمعات كان يسكنها الخوف ويعبث بها الاستبداد، لذلك أثمرت هذه الرسالة واتضحت تجلياتها في كل تفاصيل الواقع العربي، وهذا ما جعل قناة الجزيرة ذات تأثير عالمي عكسته مظاهرات التضامن في شوارع فرنسا وألمانيا واحتجاجات المغردين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبيانات التنديد والإدانة من منظمات حقوقية ودولية كثيرة، ترى في اعتقال أحمد منصور حربا على رسالة الحقوق وحرية الرأي والتعبير التي يرى الغرب أنها صفات تلازم حضارته وقيمه الإنسانية، كل ذلك شكل عامل ضغط مؤثرا على السلطات الألمانية أشعرها بأنها اقترفت خطأ فادحا لا تبرره أي مصالح سياسية واقتصادية، عندما اعتقلت واحدا من أشهر الإعلاميين العرب، لذلك لم تجد وزارة العدل سوى مخاطبة المدعي العام برسالة تدعوه فيها إلى إطلاق سراح منصور وهو ما تم فعلا، حيث قال المدعي العام إنه وبعد مراجعته تفاصيل القضية تأكد بأنها قضية سياسية تستند إلى اتفاق بين ألمانيا ومصر، ووفقا لذلك قرر إطلاق سراح أحمد منصور دون توجيه أي تهمة له. سرعة إطلاق سراح الزميل أحمد منصور أفسدت فرحة نظام السيسي في مصر بانتصار دبلوماسي يعتقد أنه حققه، وأربكت جوقة الإعلام المدجن الذي كثف رسائل التشفي والتنبؤ بأن ألمانيا ستسلم أحمد منصور إلى القضاء المصري "الشامخ"!، لينال جزاءه "كمجرم" متهم بالسرقة والاختطاف والاغتصاب، وهي تهم لا يصدقها عاقل في حق صحفي يناضل بالقلم والكلمة وينتمي إلى أشهر المؤسسات الإعلامية. لم يكن نظام السيسي موفقا على الإطلاق في طلب الاعتقال الذي تقدم به للسلطات الألمانية، إذ إن كل التهم الموجهة لأحمد منصور مدعاة للسخرية والتندر، لكنها بالفعل ممارسات يومية لنظام السيسي، فهو يسرق ثورة 25 يناير ومنجزاتها الديمقراطية ويختطف المؤسسات ويغتصب الرئاسة ومن أجل الهروب من المساءلة علق إلى أجل غير مسمى عمل المؤسسات التشريعية والرقابية. تعرضت الجزيرة خلال مراحل نضالها التنويري إلى اتهامات بالخيانة والعمالة تارة للصهيونية وأخرى للرأسمالية، وشنت عليها حملات شعواء في الإعلام العربي الرسمي، وتعرض صحفيوها ومصوروها للاغتيال والسجن والملاحقات الأمنية، ولفقت ضدهم القضايا والتهم واستهدفت مكاتبها بالقصف والاقتحامات والمداهمات، كل ذلك من أجل إسكات الصوت الحر والإعلام النزيه، لكن في كل نازلة وفي كل تحد كانت مكانتها تزداد تأثيرا ورسوخا، ورسالتها تصل إلى كل الناس حتى الذين لا يتفقون مع محتواها يقولون: لا نحب الجزيرة لكننا نشاهدها، في كل إخفاق يتعرض له نظام سياسي عربي بسبب فساده وسوء إدارته، فبدل أن يبحث عن مكامن الضعف ويراجع أدواته وآلياته ويعتمد نظام الحكم الرشيد في إدارة حياة الناس، يسارع إلى اتهام جاهز وهو أن كل حراك اجتماعي واحتجاج على سياسات فاشلة سببه الجزيرة المحرضة والعابثة بالأمن القومي العربي، بل وصل ببعض أجهزة الاستخبارات العربية أن طلبت من قوة عظمى أن خلصونا من هذا الصداع ولو بقصف المقر نفسه. الجزيرة قيمة مهنية ورسالة حضارية أحدثت تغيرات كبيرة في مخيال الإنسان العربي تجاه الكثير من القضايا التي تشكل واقعه، وهي صوت أهل الجنوب إلى أهل الشمال، حققت نوعا من التوازن وضيقت الفجوة بين الخطابين الإعلاميين في الشرق والغرب، وهي من أرست ثقافة الاختلاف والتعايش من خلال شعارها: الرأي والرأي الآخر، ولذلك فإن الإعلامي أحمد منصور وكل صحفيي الجزيرة مثقفون عضويون متميزون ومتسلحون بالبصيرة يؤدون وظيفة إيجابية تهدف إلى تحسين حياة الناس وحفظ كرامتهم وإعلامهم بكل ما يدور في هذا العالم، ولا يمكن لأي قوة أن تسكت الصوت الحر، لأن صوت الجزيرة لا يقمع.