15 سبتمبر 2025

تسجيل

تحية ثلاثية وإن كانت متأخرة

24 مايو 2022

منذ أن قفزت هيئة أشغال بشبكة الطرق في عموم قطر الى القرن الثالث والعشرين، واختفت معالم الطرق التي ألفتها على مدى سنوات طويلة، وحلت محلها جسور وأنفاق أفعوانية تختصر المسافات، صرت شبه عاجز عن قيادة سيارتي إلا في خط مستقيم من والى جهة عملي (شبكة الجزيرة الإعلامية)، ذلك ربما لأن تركيبتي الجينية ما زالت غير متوافقة مع العصر الحديث عموما، ومع هذا كنت قد كتبت مرارا وقبل نحو ثماني سنوات أو أكثر مستنكرا ضيق البعض بأعمال الحفر والرصف والردم التي اضطلعت بها أشغال، وقلت إن من يستنكرون استشراف المستقبل وإعادة تأهيل البنية التحتية هم من لا يعملون، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الآخرون، وفي يوم الناس هذا، وبيتي في منطقة المرخية-الدفنة يبدو وكأنه جزء من المنطقة الخضراء في بغداد، حيث يختبئ الأمريكان وأهل الحكم في العراق والآليات العسكرية والمدنية تهدر من حولهم آناء الليل وأطراف النهار، ذلك أن أعمال شبكة تصريف المياه من حولنا لم تكتمل وطوال ساعات النهار ومعدات الحفر العملاقة تهدر وتزمجر من حولنا لساعات طوال، ولكن ذلك لا يضايقني لأنني أدرك أنه ضيق ساعة ليحدث انفراجا طويل الأمد، فالتحية لأشغال التي أحسب أنها أنجزت أكثر من 95% من المشاريع العملاقة التي تحملت مسؤولية تنفيذها على أكمل وجه جامعة بين الكفاءة والأناقة (فالاهتمام بالجماليات الرفيعة بادٍ للعين عند الجسور والأنفاق). واكتب في غوغل كلمة مؤسسة، وتلقائيا تجد أمامك التكملة «مؤسسة قطر»، وكأنما هي وحدها الأحق بتسمية مؤسسة، وقس على ذلك كلمة فاونديشن، وليس ذلك لأن المؤسسة عندها «واسطة» عند التعامل مع غوغل، ولكن لأنها أصبحت اسم علم عن جدارة بأذرعها الكثيرة الخضراء الوارفة، وجوهرة تاج المؤسسة هي المدينة التعليمية، حاضنة مدارس من مرحلة الأساس الى الثانوية، ومنها الى الجامعية وما فوق الجامعية، والمدينة التي تشغل نحو 12 كيلومترا مربعا قطعا هي أكبر بؤرة مركزية للعلم والاستنارة في الشرقين الأوسط والأدنى، وإذا أضفت الى هذا العقد الفريد مكتبة قطر الوطنية ستعرف كم هي المؤسسة معنية بديمقراطية المعرفة، لأن المكتبة توفر المعارف بأحدث الوسائل لكافة شرائح المجتمع والأعمار من خلال أكثر من مليون كتاب ورقي، ونصف مليون كتاب الكتروني الى جانب آلاف المجلات الدورية والفصلية. في أواخر العام الماضي استضافت قطر مباريات كأس العرب لكرة القدم، ورغم أنني لست كروي الهوى، إلا أنني رصدت جانبا كبيرا من وقائع تلك المباريات لأرى الملاعب التي تم تشييدها لاستضافة مونديال كأس العالم في نوفمبر المقبل، وانبهرت كما الملايين بما أنجزته اللجنة المكلفة بترتيب الأمور لتلك الاستضافة، وأعتقد أن أول توفيق صادفته اللجنة كان في اسمها «اللجنة العليا للمشاريع والإرث» فقد كان اسماً موحيا بالمهمة المناطة باللجنة، ومن بينها أن الأمر لن ينتهي بنهاية المباريات، فالمشاريع الرديفة للمونديال ولدت لتبقى، ليس فقط إرثا لقادم الأجيال بل ذات جدوى لمن يعاصرونها، تماما كمرافق بطولة الألعاب الآسيوية التي استضافتها قطر عام 2006، والتي تحولت اليوم الى صروح طبية جعلت مؤسسة حمد الطبية تفرد أذرعها وهي تهتف: إليّ، إلي يا مرضى كسيري القلب والأعضاء (من قصيدة لصلاح عبدالصبور). أعلم أن هناك مؤسسات وهيئات كثيرة قدمت أوراق اعتماد نجاحها في السنوات الأخيرة في قطر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، شبكة الجزيرة الإعلامية، التي تحولت الى أرخبيل يضم عددا من الجزر الزاهية، وهيئة المتاحف وغيرهما، ولكنني اخترت إزجاء التحية لأشغال ومؤسسة قطر ولجنة المشاريع والتراث، لأن ثلاثتها لا تمارس الطنطنة الإعلامية، مكتفية بشعار «احكموا علينا بأعمالنا»، ورغم إعجابي بإنجازات هذا الثالوث البديع منذ بدايات بروزها، إلا أنني أرجأت الحديث عنها الى اليوم الذي أحس فيه أن الجميع باتوا يرون ويدركون إلى أي مدى هي باتت فاعلة ونتاج فعالها تشهد عليه العين والأذن، فشكرا لمن جعلوا منها أيقونات نجاح.