08 نوفمبر 2025

تسجيل

فن أدبي يوشك على الانقراض

24 أبريل 2014

الناس جميعا مولعون بحب الاستطلاع، وهذا ما نلمسه بوضوح في حياتنا اليومية، حين نجد اثنين يتهامسان ويومئ كل منهما للآخر برأسه وبإشارة من إحدى يديه، فإننا نحاول أن نعرف شيئا عن سر هذه الهمسات والإيماءات والإشارات، وقد يندفع بعض منا إلى محاولات استراق السمع، وهو أمر أقرب إلى التلصص والتجسس، وليس إلى مجرد حب الاستطلاع، فالفارق ما بين حب الاستطلاع وبين الفضول هو نفس الفارق بين المعدن النفيس والمعدن الخسيس!حب الاستطلاع قد يقود الإنسان إلى اكتشاف شيء مفيد أو ممتع، أما الفضول فيعني أننا نريد اقتحام أعماق الآخرين دون موافقة صريحة أو ضمنية منهم، ولعل الكاتب الوجودي الفرنسي الشهير جان بول سارتر كان يشير إلى هؤلاء الفضوليين بعبارته الشهيرة: الجحيم هو الآخرون، كما أننا – في أدبنا العربي وفي حياتنا اليومية – نواجه كل إنسان فضولي بالقول الشهير: لا تتدخل فيما لا يعنيك.نلاحظ دائما أن هناك إقبالا شديدا على قراءة رسائل المشاهير من الأدباء والفنانين والسياسيين، ومنا من يقول إن هذا الإقبال دليل على حب الاستطلاع الذي لا يسلم منه أي إنسان، بينما يرى آخرون إن الرغبة في الاستمتاع هي الدافع وراء هذا الإقبال، وفي تصوري أن الإقبال على قراءة رسائل المشاهير من السياسيين والفنانين والأدباء له أسباب عديدة مختلفة، وهي تتعدد وتختلف وفقا لاختلاف طبيعة كل إنسان منا عن الآخر، فهناك – مثلا – من يلهثون وراء فضائح المشاهير في صفقات تجارية أو علاقات غرامية يفترض أنها خاصة وسرية، وهناك آخرون يريدون بالفعل أن يستفيدوا من التجارب والآراء المبثوثة في ثنايا هذه الرسائل.وفيما يتعلق بالأدباء والفنانين والمفكرين الذين يتبادلون الرسائل مع سواهم، يهمني أن أفرق بين قسمين، أولهما هو القسم الذي يعرف أفراده أن رسائلهم ستنشر وسيقرأها الناس، وهؤلاء يحرصون على رسم ملامح لهم قد تبدو مثالية ونقية، أما القسم الثاني فإن أفراده لا يعرفون أن رسائلهم الخاصة ستنشر وهم أحياء أو بعد أن يرحلوا عن دنيانا، وهؤلاء يكتبون بتلقائية وببساطة وتتجلى في رسائلهم مظاهر الضعف الإنساني، فقد نجد فيها الغيرة أو الجشع أو التملق أو ما أشبه هذه المظاهر السلبية كلها. ولكي أوضح الأمر بالأمثلة أقول إن الرسائل التي تبادلها كل من الشاعرين الكبيرين محمود درويش وسميح القاسم، وكذلك الرسائل التي تبودلت بين المفكرين المرموقين محمد عابد الجابري وحسن حنفي، كلها رسائل قصد أصحابها أن ينشروها للقراء أجمعين، وبالتالي فإنها تفتقد التلقائية إلى حد ما، أما الرسائل التي كان بدر شاكر السياب يرسلها إلى أدباء وناشرين عرب كثيرين، من بينهم سهيل إدريس وأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا فإنه لم يكن يعرف أنها ستنشر في يوم من الأيام، ولهذا كان يطلق فيها العنان لنفسه لكي يكتب ما يشاء عن سواه. ومن الرسائل التي تبدو مشوقة وممتعة رسائل الأدباء إلى حبيباتهم خاصة من الأديبات، فهناك رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، وهي رسائل فياضة بالمحبة وبالغيرة ومختلف ملامح الضعف الإنساني، وهناك رسائل خليل حاوي إلى ديزي الأمير، ورسائل أنور المعداوي إلى فدوى طوقان، ونلاحظ في هذا السياق بالذات أن هذه الرسائل جميعها لم تنشر خلال حياة كل من غسان كنفاني وخليل حاوي وأنور المعداوي، كما أن الردود على هذه الرسائل من جانب كل من غادة السمان وديزي الأمير وفدوى طوقان لم تنشر حتى الآن، وهذا في تقديري راجع إلى طبيعة المرأة الشرقية التي يهمها أن تبرز عواطف الآخرين تجاهها، دون أن تتجرأ على إبراز عواطفها هي تجاه الحبيب.أعترف بأنني واحد من المولعين بقراءة رسائل المشاهير، خصوصا رسائل الأدباء والشعراء، لكني أتصور أن هذا اللون الأدبي الجميل يوشك على الانقراض. لماذا؟ هذا أمر آخر يتطلب موضوعا مستقلا!