17 سبتمبر 2025
تسجيليعيش بعض الناس في الماضي ولا يريدون منه فكاكا، ولا يتخلون عنه قيد أنملة بعد أن أسرهم منجزه الفكري والثقافي، ومع أنه ماض انتهى بخيره وشره لكن التشبث به يزداد يوما بعد يوم لدى أولئك الذين يسدون آذانهم ويغلقون أفواههم عند الحديث عن الحاضر بما حققه من مكتسبات هي بالنتيجة مستمدة من عدة مصادر أحدها ذلك الماضي القريب والبعيد، ومقابل هؤلاء هناك بعض الناس الذين ينسون ذلك الماضي ويتحاشون الحديث عن منجزه الحضاري، ويرفضون الانتماء لتاريخ أمتهم القديم، ويتردد على ألسنتهم ما حمله الماضي من أخطاء دون الالتفات إلى ما حمله ذلك الماضي من منجزات إنسانية وفي مجالات عديدة، وما استطاع أعلام ذلك الماضي تحقيقه من منجزات كبيرة لا تزال آثارها واضحة على الأجيال التالية.الماضي بكل ملامحه والحاضر بكل معطياته لا يمكن النظر إليهما إلا في سياق تاريخي واحد تعددت حلقاته لكنها لم تنفصم، وكثرت منجزاته وإن اختلف مستواها، والتاريخ نفسه ليس سوى سلسلة من الأحداث ذات الارتباط المباشر الذي تمتد حلقاته متماسكة منذ خلق الله الأرض ومن عليها وإلى أبد الآبدين، ولأن التاريخ متصل وليس منفصلا فإن الانصراف الكلي للماضي وتجاهل الحاضر بكل ما فيه من منجزات حضارية علمية وأدبية مذهلة إنما هو تغريد خارج الزمن، ومحاولة مستحيلة النجاح لحفر فجوة بين الحاضر والماضي، وكذلك هو الانصراف الكلي للحاضر وتجاهل الماضي إنما هو ضرب من تجاهل الهوية والتنكر للموروثات الثقافية التي انتقلت وتراكمت عبر الأجيال، وفي الحالتين فإن كل واحد من هذين الموقفين إنما هو أسوأ من الآخر، لأن الإنسان الذي يرث مكوناته الجينية من أجداده عبر والديه، يرث منهم ايضا الثقافة والسلوك وبذلك تتماسك دورة الحياة ويشتد عودها مع مرور الزمن.. وحياة الحاضر هي خلاصة تجارب الماضي وإنجازاته، وهذا ما تؤكده حتمية التطور للإنسان والحياة، فما بين الماضي والحاضر عرى لا تنفصم عبر مراحل التاريخ المختلفة.في الماضي من المنجزات ما يبعث على الإعجاب، وإليه يكون الانتماء، وبه يكون الاعتزاز، ومنه تستمد العبر وتستقى المثل العليا، والإنسان لا يعيش في ماض يأسره، ولا في حاضر يلهيه، ولكنه يعيش على تلك الخلطة الناجعة من الوفاق مع النفس والوفاق مع الآخر، بما في ذلك من مكونات أهمها الماضي والحاضر، مع الانفتاح على مكونات أخرى تتحقق من خلال ممارسة الإنسان لحريته في اختيار ما يراه مناسبا لظروفه، ومستجيبا لمتطلبات حياته، ومنسجما مع إمكانياته المتاحة.والعيش في الماضي لا يقتصر على أمة دون غيرها أو شعب دون سواه بل هو ظاهرة تعلن عن نفسها حتى في الدول المتقدمة، وفي بعض الولايات الأمريكية توجد بعض القبائل الوافدة وليست من السكان الأصليين لا تزال تعيش على مخلفات الماضي، وترفض التعاطي مع منجزات الحاضر، مكتفية بالعيش البدائي الذي يعتمد على جهد الإنسان نفسه، دون الاستعانة بمنجزات العصر، انطلاقا من معتقدات غريبة على الحياة الحديثة، ومثل ذلك يوجد لدى بعض القبائل الأصلية في استراليا وأفريقيا، وغابات الأمازون، وهي تصر على اختيار هذه العزلة الحياتية رغم الإمكانيات المتاحة للاستفادة من منجزات العصر..إذا كان في الماضي ما لا ينسى أو لا يمكن الاستغناء عنه، فإن في الحاضر المعيش ما هو أكثر التصاقا بحياة الإنسان.. واستجابة لطموحه، والمعادلة الصحيحة للحياة هي أن تؤخذ من الماضي إيجابياته، لتضاف إلى إيجابيات الحاضر، وبهما معا يمكن رسم خريطة الطريق للمستقبل، ووضع الأسس القوية لبنائه، حتى يكون هذا المستقبل أكثر إشراقا وتقدما وازدهارا للبشر في كل مكان.