12 سبتمبر 2025

تسجيل

هلك المتنطعون

24 فبراير 2012

تقول الكاتبة (بدرية البشر) في روايتها (هند والعسكر): ( قاعدة الحياة تتلخص في أن قدرتك على إطاعة القوانين تجعل الحياة أسهل، بينما يصعب الأذكياء الحياة على أنفسهم، فهم يبحثون عن سبل خلاقة وطرق جديدة للحياة ومحاولة صنع قوانين جديدة لحياتهم تتناسب مع قدراتهم، تعرضهم للفشل تارة وللإحباط تارة أخرى، وتطيل طرق نجاحهم) أ.هـ وبعد>> فلما وجدت نفسي أوافقها — وأعني الكاتبة — في ذلك اليقين والإيمان، المتعلق بالإنسان والحياة، في كل الاتجاهات وبجميع التفاصيل، وجدتني أيضا مؤمنة إيمانا تاما، ومتيقنة يقينا خالصا أن ذلك متأصلا أيضا في عالم الكتابة بتفاصيلها المتشعبة، فللكتابة قوانين وإن كانت ليست مدرجة أو مسجلة في أمهات الكتب، ودساتير الحياة، ولكن هي قوانين عقلية ومنطقية تدركها العقول والأذهان، قبل أن تدركها الأقلام والصحف. فكما لا يخفى أنه ثمة أقلام تسير في تباه مذموم في درب التشدق الأدبي والتنطع الكتابي، كأن يَعمَد الكاتب في ملء السطر الواحد بالمفردات المتقعرة والغريبة، والمبالغة في الصور والخيال التي لا وظيفة لها سوى إرهاق فكر المتلقي، الذي يعجز في أحيان كثيرة عن فهم المقاصد التي تقع خلف تلك الصورة والمفردة، فبعد أن يتورط القارئ في هكذا قراءة مزعجة يجد أن لا سبيل له إلا حث الخطى في القراءة، بفهم أو دون فهم، فقط لكي يصل إلى نقطة النجاة تلك التي تقع في نهاية السطر، والتي قد تكون هي العلامة الفارقة الوحيدة المفهومة في النص، كعلامة متفق عليها في اللغة أنها من علامات الترقيم والمراد بها (التوقف عن القراءة)، فلا سبيل للتفيقه حينها، هذا إن لم يرحم ذهنه وتوقف قبلها. لعل الكاتب لم يشعر أنه أتلف أعصاب القارئ الذي أعجزه الالتفاف حول النص في محاولة يائسة للبحث عن فكرة الكاتب الهاربة، جاهلا في أحيان كثيرة أنها هاربة جزعا وفزعا من صاحبها الذي لم يحسن صياغتها فحملها ما لا طاقة لها به وبذهن من ألفها ومن يقرأ بحثا عنها، فكيف للمتلقي أن يجدها إذا..! ذلك الأسلوب لا أراه إلا أنه إرهاق للجميع لا أكثر، إنني أتساءل في نفسي وأردد، أين هو ذلك الكاتب عن إسماعيل الجوهري وابن منظور، اللذين لم يميلا إلى تلك الدروب المقيتة، بل ألفا معاجم تسهل على الناس فهم اللغة، وهم أهل اللغة والأدب. إنني وعندما أقرأ هكذا كتابات مضنية، لا أشعر إلا وأنني أطفو على سطح الكلمات، فلا أشعر بالغرق اللذيذ أبدا، ذلك الغرق الذي هو هدف كل كاتب يبتغي من وراء كتاباته جمهورا يفهمه ويشعر به، إن الكتابات التي لا نغرق فيها جمالا وشعورا وإحساسا، لا يجب أن يطلق عليها كتابات أدبية البتة، بل هو حديث شديد الارتباك يشعرنا بالتوتر في أحيان كثيرة، وبالضياع والتيه في أحيان أخرى، والمؤسف كل ما حدث ويحدث، يكون في سبيل فرد العضلات اللغوية والأدبية وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة لدى من يسمي نفسه (كاتبا متميزا )، في حين أنه ليس مضطرا إلى ذلك. لا أعلم حقيقة إن كان ذلك الصنف من الكتاب قد جهلوا أن الجمال يكمن في ما يسمى (بالسهل الممتنع )، وأن التميز يتمحور حول الفكرة التي تصل سريعا دون عناء إلى فكر وفؤاد القارئ، حيث تجبره العذوبة التي تغلف النص وتحتويه، على أن يقرأ تلك المقطوعة الجميلة أكثر من مرة، وفي كل مرة يكتشف دررا ولؤلؤا منثورا، فيكون الكلام هنا براقا لامعا وخالدا. إنني أجهل، هل هم جهلوا أنهم مهما تكلفوا في تنطعهم وتشددوا في تشدقهم لاستمالة أفئدة القراء بالإعجاب والرياء والنعت بالثقافة ونيل جوقة الشرف من النخبويين، أنهم لن يصلوا إلى مرحلة الإعجاز البلاغي، لأنه اختص به الكتاب المبين، الذي هو كلام رب العالمين، وفيما عدا ذلك فهو كلام، قد يكون جميلا، ولكن هو جميل ناقص، وقد صدق الحبيب المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والذي هو وحده لا سواه من أوتي جوامع الكلم في قوله صلى الله عليه: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)