19 سبتمبر 2025

تسجيل

بنات العرب

24 فبراير 2012

"بنات العرب"، عبارة لطالما تم ترديدها على مسمعي، كأسلوبٍ للتربية، وأنموذج يجب أن يُحتذى به، (عيب، بنات العرب لا يفعلن ذلك)، (عفية، فهكذا يفعلن بنات العرب).. وكبرت وأنا أرسم صورة ذهنية لبنات العرب، أنهن بناتٍ حييات، ذوات طباعٍ ملائكية، يختبئن عن أُهيل الحيّ حياءً وحشمة، ويمتثلن للصواب، ويبتعدن عن الخطأ. كنت أتخيلهن ملتزماتٍ بحجاب وملابس فضفاضةٍ ساترة، لا يتركن فرضاً، ولا يعصين الخالق، هن للمثالية أقرب من واقعية البشر، لذلك أمي تُريدني أن يُكن لي مثالاً وأنموذجاً في الطاعة والخُلق الطيب. تتوالى الأيام وأكبر، وأنا أتفقد (بنات العرب) في زوايا الحيّ، فلا أجد لهن وجودا، أكبر ولا يكبرن، هن كما وصفتهن أمي مُذ أنا طفلة، عمرهن لم يتقدم، طباعهن لم تشِن، لم تحدث لهن أية مواقف معنا نحن الفتيات، إذن هن يتعاملن مع من..!؟ من مجتمعهن.!؟ ومن مُحيطهن..!؟ بمن يختلطن ومع من يتحدثن..!؟ ولم لا تصلنا أخبارهن اليومية، فجلّ ما وصل إلينا أخبار وصلتنا مُذ كنا صغاراً، وما زالت تُردد علينا، وعلى الفتيات الأصغر سناً منا..!؟ وإذا كنّ بذلك القدر من الصلاح، فلماذا لم يتزوجن بعد، أليس فتياتٍ مثلهن، حقيقٌ بهن أن يكن مُربياتٍ للأجيال..!؟ وتعاظمت الاستفهامات في ذهني، إلى أن وصلت إلى حقيقة مُفجعة، أن ذلك البضع من الفتيات، ليس لهن وجود أساساً، بل كن شخصياتٍ خيالية، تم رسمهن كمثل أعلى للاقتداء، فارتعت من اللاوجود الذي لطالما آمنت بوجوده.. في ذلك الوقت الصعب، ظهرت لي حقيقة موجودة، كسرت أبعاد الخيال القديم، فتلاشى ألم الوهم، وجزع الصورة الذهنية المُتكسرة، التي اختفت أشلاؤها في كبد زمن.. هي امرأة اختصرت النساء، عرباً وعجماً، كانت هي الأنموذج الممتثل أمامي طوال السنين، التي مضت، ولأنها الراوي فصعُب عليّ كطفلة، الربط بينها وبين ما ترويه.. (أمي) هي المثالية الأبعد عن واقعية البشر، ولا أظن أن ابنةً مثلي، لديها أم كأمي، ولا تراها في قالب المثالية، هي الموجود الذي أُبصره ويُبصره أُهيل الحي، هي المدرسة التي لا تُغلق أبوابها أبداً، والمعلّم الذي كاد أن يكون رسولا هي مدارات من الطهر، وأفلاك من الطيبة، وكونٌ من الإنسانية الحقّة، هي الجنتين، جنة الدنيا والآخرة. (أمي) هي الخير المُطلق، والفضل السابغ، هي حبيبة الضاد وسبب حبنا العميق لتلك اللغة.. طفلةٌ أنا، عندما كانت تضع بين يدي كتاباً حين نوم، فانطلقت للحياة أهوى القراءة. طفلةٌ أنا، عندما كانت تضع في يمناي قلماً حين ضيق، ففتحت لي باباً مُغلقاً فإذا به عالم الكتابة، فانطلقت أكتب، وأكتب، وأكتب، ليُطلق علي بعدئذٍ (كاتبة).. للتو استوعبت، أن (عظيمة كوني) كانت تستخدم ذلك الموروث اللفظي، الذي أرادت به تعليمي، حكمةً وحنكة وفطنة، فهي لم تجعل من ذاتها المثل الأعلى، على الرغم من أنها تختزل جميع تلك الصفات، ولكنها استخدمت خيالاً متوارياً عن الأنظار، لا ينبغي له أن يُرى لانعدامه أصلاً، فما بين المنافسة والفضول كنا نرتقي خُلقاً وأدباً.. هكذا أرادتنا، بشراً أقل قصوراً، وأخف تقصيراً، بشراً نواجه الحياة بكميات كافية من الخلق والدين والعلم، نسير في دروبها بخطىً واثقة، وعزيمةٍ جبارة، وزادٍ كافٍ يوّصلنا إلى الدار الآخرة، بسلامٍ وأمن.. أعتذر يا أمي لو تقزمت العبارات، وتضاءلت الحروف والكلمات، فمقام كمقامكِ يُعجز اللغة في الوصف والتعبير، ولكن كل ما أستطيع قوله، بلغةٍ بسيطة عميقة: (أحبج يمه، وعسى يومي قبل يومج)..