18 سبتمبر 2025

تسجيل

أمهات الكتب

24 فبراير 2012

"إن الحياة علم وتعلم"، على تلك القاعدة نشأ فكري، فكان أن توجهت إلى الكتب، أقرأ لأعلم وأتعلم، فالإنسان عدو ما يجهل، وأعظم ما كنت أخشاه أن أكون في مقام علمٍ وحضرة علماء، وأكون بمعيتهم (جاهلة).. إيماني كان عظيماً بأنني بالقراءة ستتفتح مداركي، وسيتفوه لساني، وستقوى حجتي، وسيبزغ قلمي، فإن كان العلم بحراً، فأنا لا محالة سأكون سماءً، بديهة الرد، مُدركة دهاليز الجدال، ومُتقنةً للنقاش بشتى أنواعه، فالكيس هو سيد الحوار أخيراً..! وفي رحلة القراءات الأولية، كنتُ قد وصلت إلى بوابةٍ عظيمة، ارتعدت أمامها، فتقزم حجم علمي، وتضاءلت همم تعلمي، ففي حين يأس، أدركت عظيم جهلي.. هناك كنت أقف، أمام بوابة عظيمة، كُتب على جدرانها (بوابة أمهات الكتب)، كنت أتساءل في نفسي: (وهل للكتب أمهات..! )، إذاً..! ماذا كنت أقرأ سابقاً..!؟ أهذه ذرية تلك..!؟ أم أنهن أمهات عقيمات لا يُنجبن ولا يلدن..!؟ صُعقت فصممت أن أخوض بحر الأمهات، ففي النهاية حلمي القديم ما زال يعيشني أن أكون سماءً، إن كان العلم بحراً.. فبدأت، بنهمٍ أقرأ عبقريات العقاد، وأعلام الزركلي، والبيان والتبيين للجاحظ، ومقدمة ابن خلدون، وغيرها الكثير، قرأت إلى أن أدركت أنهن أمهات كثيرات، أمهات لكل مجال وبحر، فهناك أمهات التاريخ، وأمهات الأدب، وأمهات الاقتصاد، وأمهات الفقه.. الخ، هن كتب بثقافة المراجع، لها احترامها وهيبتها وحضورها في ميادين العلم. ولكن وكما يقول ابن عثيمين رحمه الله: (إذا تحدد الهدف تسهلت كل الأمور)، فكان تركيزي الأعظم على كتب الأدب، ثم عمدت الى الإطلاع على الآداب الأخرى، والأدب المقارن، وأتقنت اللغة الانجليزية ودَرستُ الفرنسية.. حينها، استتب في نفسي الرضا، وحل الاطمئنان أنني أعلم وأتعلم، بل إنني على سؤدد العلم اكتملت.. ولأنني بشر، يعتريني ما يعتريهم من القصور العظيم والنقص الخطير، فكان أن صُعقت صعقةً أقسى من الأولى، وأشد تنكيلا، كان ذلك في لحظة اختراق الآية الكريمة مسامعي، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، إذاً ماذا عن مقام العلم..! ماذا عن حضرة العلماء، وكل علمٍ وُجد على الأرض (قليلا)..! ماذا عن سمائي وبحره..!؟ ماذا عن تعلمي والعلم..! ماذا عن الكثير الذي أُريد أن أُدركه، وأفقهه وأعلمه..! ظللت أطرح سؤالاً تلو الآخر، إلى أن استوقفتني آيةً كريمةً أخرى تقول (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسوءكم ).. بالله آمنت، ترقرق دمعي مُستغفراً تائباً قائلاً: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين ).. و بعد ذلك، لم تتهاوى هممي في العلم، ولم تتلاشى رغبتي في القراءة والاستزادة، ولكن تغير مفهومي لبعض الأمور، أدركت أن أمهات الكتب، لسن عقيمات، بل لديهن أرحام خصبة تُنجب أفكاراً فذة، وأدركتُ أيضاً أن تمام العلم والوصول إلى سؤدد المعرفة، مُستحيلٌ يدور داخل دائرة المستحيلات الثلاث التي قيل عنها قديماً (الغول والعنقاء والخل الوفي)، فكان أن جدولت قراءتي، كأن أستهلها بالقرآن، ومن ثم ما شاء الله لي أن أقرأ، أقرأ وأنا أردد: (ربِ زدني علما)..