17 سبتمبر 2025

تسجيل

المحن العربية وكيفية الخروج من المأزق! (1-2)

24 يناير 2016

من المؤلفات التي أصدرها المفكر العربي السوري د. برهان غليون، وانتقد الوضع العربي سياسيا وفكريا، وكان نقداً قويا ودقيقاً في تشريح واقعنا العربي، كتاب (المحنة العربية: الدولة ضد الأمة)، ويعد هذا الكتاب، من الكتب الجريئة في نقد الواقع وتحولاته منذ أكثر من قرن، خاصة الأزمات العربية، السياسية والفكرية والتي أثرت على كل المجالات السياسية والفكرية والحضارية،وما تزال تداعياتها قائمة حتى الآن، والأغرب أنه في هذا الكتاب حلل الراهن العربي، وكأنه يعايش هذا الواقع الراهن بمشكلاته المؤلمة في أكثر من بلد عربي، على الرغم أن الكتاب، مر عليه أكثر من عقدين من الزمان على صدور هذا الكتاب، ومما قاله د. برهان غليون عن الجانب السياسي من المحنة في هذا الكتاب: إن الصدمة التي أحدثها اكتشاف العالم الحديث، سواء جاءت عن طريق الغزو والعنف أو بالسعي الذاتي، قد شكلت نقطة قطيعة حقيقية في التصور الثابت للذات. وارتبطت بتضييع المصداقية التاريخية، كما ارتبطت بانقطاع خيط الزمان وانكسار امتداد المكان. ولن يعرف المجتمع العربي بعد هذه الصدمة السلام أو السكينة، لا في علاقاته الخارجية ولا في علاقاته الداخلية. فبقدر ما خلخلت نهائيا وبعمق التوازنات التاريخية التي قام عليها هذا المجتمع، أصبحت أيضاً المولّد الدائم لعناصر التفكك والتحلل. ومنها وعلى هامشها سوف ينمو ويتفاقم منطق التنافس والعداء بين الجماعات المتميزة، ويعمل دون هوادة على تدمير شبكات التبادل والتواصل التاريخية بينها، كاسراً ينابيع الحياة هنا، ونافخاً في روح النزاع والصراع هناك، قاطعاً وشائج الرحم والقربى داخل القرابات الموثوقة نفسها.باختصار، لم يعد هناك أي وضع ثابت أو منطق فاعل في الفكر أو في التنظيم الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية. فمع بروز مراتبية جديدة للسلطات ونظام جديد للأشياء، تبدّل حقل التفكير بكامله، بما هو إمكانية للرؤية والكلام والفهم، أو لتوليد الخطابات وعقلنة الممارسة وإبداع الإشكاليات النظرية القادرة على كشف الواقع الموضوعي وإظهار حقيقته. أما خطاب المدرسية الإسلامية الذي كان يمحور مقولاته على المشاكل الدينية والفقهية، محيطاً إياها في الوقت نفسه بعالم من المحرّمات والحرمات، فقد بدأ يفقد بسرعة اتساقه الداخلي، ويدخل في تناقض متزايد مع الواقع الجديد. وبما هو فكر محافظة أو فكر محافظ في مجتمع فقد إلى حد كبير قدراته الإبداعية وأصبح محكوماً تاريخياً مع وقف التنفيذ، كان الخطاب الفقهي التقليدي يعمل من منطق إعادة إنتاج النظام القائم والمتدهور، أكثر مما يشكّل إطار تنمية الامتحان النقدي لمعطيات الإدراك، وهو الامتحان الذي لا غنى عنه من أجل تجديد المعارف النظرية والعلمية. لقد كان الأفغاني على حق عندما صرخ في وجه فقهاء عصره قائلاً: ((حتى لو كانت أكثر عدداً، لا تقدم مؤلفات علماء المسلمين الوسائل اللازمة لمساعدة الإنسان على الوصول إلى الكمال، والسبب في ذلك أنها مليئة بالنواقص والعيوب)).((أليس من علامات الإهمال والإخفاق ألا يندفع الفكر نحو البحث؟ أليس عيباً على العالم والحكيم أن يرى ما يزخر به العالم من العلوم الجديدة والمكتشفات والمؤلفات الحديثة، ولا يسعى إلى التعرف عليها ومعرفة علل هذه المستجدات وآثارها؟ أليس من العيب أن يطرأ على العالم هذا التحول الشامل بينما يبقى هو في غفلة تامة عنه؟)).إن صعود الهيمنة الغربية شكل وحده هزة كبرى خلخلت الهياكل الدولوية والنظم السياسية والعسكرية القديمة بقوة. وكان من نتيجة انحلال النظام التراتبي التقليدي، بما كان ينطوي عليه من شبكات ودوائر سلطة خاصة، تبدل المواقع المكتسبة للعديد من القوى الاجتماعية وانقلابها، وبالتالي انفتاح الصراع والتنافس بين هذه القوى كما لم يحصل منذ قرون. ولم يتأخر بروز نمط جديد من أنماط التركيبة الحديثة المرتبطة بالسوق العالمية الرأسمالية حتى يفجر منطقاً جديداً لتراكم الثورة في أيدي فئة قليلة من السكان، ومن ثم إلى تهميش فئات اجتماعية كانت سائدة من قبل، ورفع فئات أخرى، وإعادة تكوين الأغلبية الواسعة في وسط شعبي جديد. وبمواكبة ذلك، سوف يؤدي تدفق البضائع المصنعة من الدول الصناعية إلى تبديل أنماط المعيشة والعلائق الاجتماعية، وفي سياقها، إلى ظهور شكل جديد لتقسيم العمل والتقسيم الطبقي، وفي النهاية إلى شكل جديد من السيطرة الاجتماعية وعلاقات القسر لم تعرفه هذه المجتمعات من قبل.إن عالماً كاملاً قد تبدل فجأة وبشكل جذري من دون أن يتسنى لأناس ذلك العصر الوقت الكافي لمعرفة كيف حصل وما هو أصله ومصدره. وفي ضوء هذا التبدل اكشف العالم الإسلامي هرمه وترهل بناه، وما سوف يستمر المثقفون في وصفه لعقود طويلة بالانحطاط. ولا يعني الانحطاط في الواقع شيئاً آخر سوى التقهقر المادي والتحلل الروحي والمعنوي ولا يعكس هذا الهرم توقف التاريخ العالمي بالنسبة إلى العالم الإسلامي وتحوله نحو حضارات أخرى، ونموه بوتائر أخرى فقط، ولكنه يشير أيضاً إلى الهوة العميقة والمؤلمة التي أصبحت تفصل بين الواقع المعاش، الجديد، وبين الوعي به، بين الموضوع وتمثله. إنه التعبير عن العجز وانعدام القدرة: العجز عن المعرفة الصحيحة والفهم الصادق، وانعدام القدرة على المبادرة والفعل. وهو أيضاً منبع الجهل ومصدره وأصل الاختلاط والضعف العقلي الذي يهدد الجماعة مباشرة بين التهميش والتلاشي.. وللحديث بقية..