27 أكتوبر 2025
تسجيلتتورط النزعة الوطنية في مسرح عالمي يتخلله الولاء الوطني فتنعكس في مياهها الرقراقة خزائن القوى الهائلة التي قد تنبت من أصولها جراثيم دقيقة لاستفزاز الوجدان الاتحادي واستنهاضه بين معتنقيه. غير أن هذا الاتجاه، ما يشبه إناء طفح بالإكسير الذي يهيج تفاؤلنا بوعود مغرية، تتضمنه التيارات التحتية المرة التي يسعها إثمال الدول بسموم كراهية الأجانب وتأجيج التعاملات العرقية العنفية حتى تتسبب في تحطيم توازن المجتمعات وتشتيت ما تتجوهر عليه مبادئ التعايش السلمي. قد تبدو الطبائع التي تروج الوطنية على أشدها شعارا للاتحاد والاندماج، على أنها لا تعدو كونها مجرد لواء يعتني في ظله بأحقر نبضات الإنسانية وأحطها. فربما يتجسد الانفتاح والاندفاع إلى النزعة الحمائية والكبرياء الوطني في بلوغهما إلى أشدهما حطبا ماكرا تتلظى به نيران كراهية الأجانب، مما يثير الضغينة والبغضاء تجاههم ويشيع الخوف والهلع منهم. فيتفاقم نوع من مثل هذه الانفعالات المبغضة للأجانب من تحت السطح من حيث تتمثل في إكسير سام يهدد بتحطيم أسس تأسست عليها المجتمعات وتأصلت. وتكمنت جذور هذه الخمور المسممة وترسخت في فكرة فرد يغويه الحرص على تقوية أفضلية وطنه وأسبقيته على غيره في مضمار الحياة السباقي أو في خاطر أحد يخيَّل إليه أن صيانة سيادة قومه تعتمد على ازدراء الآخرين واستحقارهم وانتهاك كرامتهم الذاتية. فيماثل هذا الموقف التعصبي تجرّعَ كأسٍ تشوبها شائبة من أدران الجبروت وأوساخ العجرفة، مما يكسو أعيننا الأكفان التى تتستر على انسجام التنوع وجماله. فباسم الحفاظ على نموذج ضيّقِ الأطراف من الهوية الوطنية ما برحنا نخاطر بتمزيق نسيج العلاقات المشتركة الرقيق حيث تنتسج تعددية الثقافات على أروع طرازها. فإضافة إلى ذلك، ربما تكشر التوترات العنصرية عن أنيابها في حين تغدو نظرية الوطنية عقيدة حاسمة تثير الانقسام العرقي. فعلى الرغم من أن هذه الكأس الثقافية التي ترف فيها بجناحيها النزعة الوطنية تقوم رمزا للاتحاد والتضامن إلا أنها قد تتجسد في بوتقة تغلي فيها أمارات الشناءة والاستياء من المظالم التاريخية. كما تميط القصص من ماض مشترك اللثام عن خصومات مريرة تفضي إلى استهداف الاستقرار الدولي للخطر الذي تتوخى الوطنية دعمه دلالة على الالتزام به. أما فيما عدا ذلك فتتصاعد عواقبها بشكل تدريجي، غير أنها لا تقل من كونها أكالة وتفتك بكل ما يرافقه من بذور التعاون ونوى التكاتف، كما هو الشأن مع أي سُمّ كان. كما تولد الكراهية عدم الثقة على الصعيد العالمي وتغذي الانقسام فيما تستبعد أولئك الذين يجدر بهم الاحتضان على الرحب والسعة بوصفهم بني جلدتنا من هذا الكون. فتتموج أمواج التوترات الإثنية من وقت لآخر تموجا تجرف بهيجانها المجتمعات بأسرها حتى تتركها رأسا على عقب على نطاق لم يسبقه مثيل. لقد حان الأوان ليتحتم علينا الاعتراف بأوجه الأخطار المسكرة التي تعكسها الوطنية المتطرفة رجاة أن يتسنى السعي إلى القضاء على جاذبية كراهية الأجانب وإلى قطع دابر الصراعات الدبلوماسية. ومما يُعالَج به هذا الداء أنه يتمثل في دراسة صفحات الإنسانية المتداولة في سطورها وحروفها أغاني الوئام وأناشيد السلام وبناء جسور التعاطف وجاهزية الرهان على شل حركة أعضاء التطرف باسم الوطنية. فباعتبارنا ضيوفا على مائدة الكون الخضراء، حري بنا استضافة التكاتف على أن نملأ تلك الكأس الثقافية شعورا بالقبول ورحيقا من التفاهم المتبادل احتفاءً بتناغم مختلف الألوان والأشكال للنسيج الإنساني. فوا حر قلباه! كم أتمنى لو تنقت هذه الكأس مما يلطخها واعتزت الإنسانية بإعلائها متنزهة عن أشباح الانعكاسات السلبية التي قد تلوح في آفاقها وتنشر في كبد سمائها راياته السوداء فتتلبد في أرجائها تلبد الغيوم الرمادية إيماءً إلى كارثة كاسحة الإنسانية.