14 سبتمبر 2025

تسجيل

الحضارات البشرية بين شفتي فلسفة الوسطية

14 أكتوبر 2023

يزدان عالمنا بفسيفساء من الآلاف المؤلفة من الثقافات والأعراف السائدة حيث إنه يعد بمثابة لوحة فنية، تصوغ شظاياها تصاميم مثلى للإنسانية. لكن غالبا ما يتعرض ما طُبعت عليه جواهر المجتمعات المحلية للانقراض الذي تنتجه هاوية التطرف ما تتوعد بكل ما تعتمد عليه الحضارات المشتركة في جوهرها. وإذا تخيلنا كنفاسا مرسوما بخطوط جريئة من التطرف حيث تتصادم ألوان الحماسة بهدف تعتيم الخطوط بين العاطفة والتعصب، سننتهي إلى نقطة ساخنة أنه كنفاس يتخطى الحدود وينبسط على مدى القارات والثقافات في الكون، مما يفضي إلى استحالة صهر أهل الأرض في بوتقة ثقافية واحدة. وثمة ثلاثة أعمدة أساسية في صالة ضخمة الحجم من الاعتدال، وكلها تخاطب قضايا معاصرة مثيرة للجدل بنعمة فنان ماهر يتمثل في نظرية الاعتدال. أما العمود الأول منها فهو يبدو تحفة فنية للهوية الذاتية تحتفي بفرادة كل الأفراد. في هذا الشأن تعود القضية الخلافية الأولى في المجمل إلى تعريف هوية الإنسان وتحديد عناصر جوهره الأنثروبولوجي. وتحتار عقولنا فيما نتعرض لتطبيق القوانين واللوائح الغربية التي تحظر على الأهل معاينة جنس أطفالهم ومعاملتهم بحسب ما نشأت عليه ذكورتهم الأصلية وأنوثتهم. وتقابل هذا الموقف الشرقي اللوحة الغربية التطرفية حيث تأخذ فظاعة التقاليد الشنيعة والأعراف المهيمنة بخناق إنماء ذاتي ووجداني في حين تستهدف إلى قمع الحرية الكيانية التي تسوغ لكافة الأفراد أن يرتقوا بشخصيتهم ارتقاء يعارض ما اعتنقته هذه المجتمعات من رسوم قاهرة. فثمة تتراءى لنا من بين المغالاة الشرقية والغربية اللوحة الاعتدالية التى تستتبعنا أن نعتصم بحبلها، إذ إنها تدعم التوازن بين احترام الهوية البيولوجية الجوهرية وصون الحرية الكيانية. وفيما نمضي إلى القضية الثانية التي تدور أبعاد موضوعها حول حرية المعتقد، فتنطبق علينا أسطوانة الاعتدال تشيّد مسرحا خلابا حيث تمتد حرية الرأي والتفكير على مدى البصر إلى آفاق متوائمة. ما برحت المجتمعات الغربية تتوهج في وهج الحرية الفكرية المطلقة التي تفسح المجال لكل واحد منا للتعبير عن اقتناعاته بارتياح تعبيرا ينتهي ببعض الأفراد إلى مستوى من الاستهتار والاستخفاف يبلغ به إلى إهانة الرموز الدينية المقدسة. وتعاكس هذه المبادئ البقاع الشرقية الآسيوية في حين تلج في أن تحاذر الحرية الاعتقادية فتنصرف عن النقاش الفكري الحر وتنغلق عليها الأصوات الإصلاحية التي يصرخ بها أهل الاستنارة العقلية المزينة بأزكى النيات وأصفاها. فأخص بالذكر في هذا النطاق اقتلاع جذور الحرية التي تستهين بمعتقدات الآخرين وانتزاع أيادي الاستبداد التي تعتقل الحرية الفكرية حتى يتسنى لنا التعايش في عالم تتواجد فيه حرية التعبير مع احترام العقائد المشتركة في وئام. وأما فيما يختص بآخر عمود الاعتدال فهو يجسد جواهر الأنوثة حيث إنه يتعامل مع القضية التي تجعل النساء يتعرين من زينة الأنوثة والأمومة. كما لا يغمض على أحد من أهل الاطلاع، الإسراف الذي تقع في حبائله المجتمعات الغربية، وقد طفقت تمكن المرأة حتى تطلق العنان لحريتها من كل ما يقيدها، مما ترتب عليه أن يصل هذا التحرر إلى درجة من الإلغاء الكياني تؤدي بالمرأة إلى رفض أنوثتها وطرد رقتها وأمومتها. وفي سياق مواز يعارض هذا المنظور الغربي تصور ثقافي شرقي آسيوي يحبس المرأة في أحكام فقهية وأعراف مسلكية لا تليق بكرامتها الإنسانية الأصلية. فتنطلق من بين هذا الغلو ألوان الوسط الفضائلي الاعتدالي التي يجدر بها التقيد، وذلك نظرا إلى كفاءتها في المحافظة للمرأة على حقيقتها الأنثروبولوجية الفريدة وإعتاقها من أغلال الاستعلاء البَطريكي الذكوري. وفيما نخوض في ساحة المعركة بين أفضلية الهوية الذاتية واعتناق الوعي الجماعي فلا بد أن تتجذر عناصرنا الفكرية بعمق في كيفية تطبيق فن الوسطية كما أنها نغمة الحياة التي توحد القلوب في حفلة موسيقية من العواطف المتبادلة وكاللؤلوة في محارة البحر التي تضيف الجمال والأناقة في كرنفال الحضارات الإنسانية وكالشمعة التي تنير الدروب في ليالي ليلاء تغشاها وعورة التطرف وخطورته.