14 سبتمبر 2025
تسجيلفي العام الخامس للهجرة وبعد أن توالت الصفعات والضربات الإسلامية على قريش، كان المشركون يودون لو سنحت لهم الفرصة للقضاء على دويلة الإسلام الصاعدة للمجد وهم ينظرون، وكان يهود بني قينقاع وبني النضير أيضاً يشعرون بالقهر وبرغبة جامحة للثأر، فكلما مكروا مكراً أخزاهم الله؛ فامتلأت قلوبهم السوداء حسداً وغيظاً وحقداً على هذه الدويلة التي أعجزتهم، بل وأهانتهم شر إهانة؛ بما نقضهم للعهد والميثاق. هناك أيضا كان الأعراب الموتورون الذين ما حاولوا خطة ضيم لهذه الدويلة الفتية الصاعدة إلا وأخزاهم الله على يدها وردهم بغيظهم لم ينالوا شيئاً. فلا تعجب عزيزي القارئ إن اجتمعت قوى الشر وتكالبت على عباد الله وحاصروهم في ديارهم بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل وهو رقم في زماننا هذا يعتبر كبيراً جداً فما بالك بذلك الزمن البعيد ؛ حيث قلة المال والرجال والجهد والجوع وغيرها من عوامل. ومن المفارقات الجميلة والعجيبة أن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والتسليم استعان بمشورة سيدنا البطل الفارسي سلمان، فقام بتجهيز تحصيناته استنادا إلى ما أشار به عليه، ولا عجب فهكذا القائد الفذ الذي يستعين بمن حوله من مواهب وإمكانيات، وهكذا المجتمع الصالح الذي ينصهر فيه العربي القح والفارسي الأصيل والرومي العريق والحبشي العزيز وغيرهم من أعراق في نسيج واحد وتحت قيادة موفقة وراية واحدة إلى هدف واحد يعرفه الجميع ويؤمنون به، طبعا وكما هو متوقع فإن من قام بالتأليب وحمل وزره كان اليهود، إذ قاموا بعمل وفد وجولات مكوكية بين رؤوس الغدر العربي لكي يوحدوا صفوفهم ضد المجتمع المسلم الفاضل. وقفة عجيبة: ومن أعجب المفارقات في غزوة الخندق أن المشركين "استفتوا" اليهود في خيريتهم، وهل دينهم خير أم دين محمد؟، وطبعا كانت الفتوى جاهزة من اليهود بأن الشرك وأهله أفضل وخير من دين الدويلة المسلمة وبالتالي فقتالهم فيه الخير كل الخير للجميع، وهذه من عجائب الموافقات التي قل تكرارها في زماننا، هذا ووالله لا يغفل عنها الفطن اللبيب المتتبع للأحداث، قال تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"، قال بعض أهل العلم: عني بذلك كل من أوتي علماً بأمر الدين وليس مقتصراً على اليهود خاصة، سبحان من يبين للناس آياته ويفصلها تفصيلاً لقوم يتفكرون. وفي شوال من ذات السنة أقبلت جحافل الشر تريد إبادة الدويلة المسلمة الناشئة، وانظر وتأمل معي هذه المفارقات العجيبة، التى والله يصعب أن تجدها تتكرر، فخرجت قريش يرأسها أبوسفيان بن حرب قبل أن يسلم وكان هو أكبر وأخطر عدو، بل كان هو شيطان العرب متجسداً في صورته المشركة قبل أن يَمن الله عليه بنعمة الإسلام، وخرجت الأعراب بأكثر الجيش يرأسهم عيينة بن حصن الذي سماه رسول الله ( الأحمق المطاع)، لأنه كان أحمق غبياً لكن يتبعه هذا العدد الكبير، لا لكفاءة منه ولا بسبب خبرة ولا حتى تجربة رصينة تؤهله لهذا المنصب القيادي ؛ بل لأنه ابن ( حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان الفزاري) فكانوا يتبعونه لأجل نسبه بينما كان هو بدوره يوردهم المهالك ولا يناقشونه في شيء ابداً، فانظر ثم تعجب حتى يعجب العجب من هذا الكم الهائل من هذه " المفارقات" التي لا تنتهي. سأتوقف هنا عزيزي القارئ بالرغم من تشبع هذه المعركة الأسطورية بما لا يستطيع مقال متواضع مثل هذا حصره، فلن نتطرق لخيانة بني قريظة للعهد وهم في عز المعركة، ولن نتطرق للمنافقين الذين أخذوا يفرون لواذاً من صفوف المسلمين، ثم سلقوهم بعد ذلك بألسنة حداد لما ذهب الخوف، ولن نسهب كيف تمكنت عبقرية الرسول القائد من الفتّ في عضد تحالف الشر حتى نجح نجاحاً باهراً في تفكيكه وتفتيته؛ ما أدى لهزيمتهم واختلاف أمرهم وذهاب ريحهم. لكني أختم بكلمة عظيمة قالها الصادق المصدوق بعد أن ارغم الله أنف أعدائه وحلفائهم الجبناء، فقال: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا " وبالفعل، فلم تقم لقريش وأحلافها بعدها قائمة أمام صبر وقوة شكيمة تلك الدويلة الصغيرة، وذلك (وعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [email protected]