19 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظاهرة تنم عن شعور كبير بالمسؤولية تجاه الوطن والتزاما بمساعدة المؤسسات والشركات الوطنية على تجاوز تداعيات الأزمة المالية العالمية قرر العاملون في شركة الطيران الفنلندية ومن تلقاء أنفسهم تخفيض رواتبهم للمساعدة في تجاوز شركتهم لتداعيات الأزمة. ومع أن هؤلاء العاملين لا يتحملون أي مسؤولية عن حدوث هذه الأزمة والتي تسبب فيها كبار مديري البنوك والمؤسسات المالية نتيجة لتهورهم وعدم التزامهم بأصول التعاملات المالية وجشعهم الذي لا حدود له، إلا أن الوقت الحالي من وجهة نظر العاملين الفنلنديين ليس زمن المحاسبة والذي سيأتي لاحقا، وإنما زمن التعاون بين كافة أطراف الإنتاج لتجاوز الأزمة وعودة الأنشطة الاقتصادية لعهدها السابق والتقليل قدر الإمكان من نتائجها السلبية، وبالأخص البطالة. وفي هذا الجانب تتفاوت التقييمات بصورة كبيرة بين اتجاهين، الأول الاتجاه الإسكندنافي والأيرلندي والذي يؤمن بالعمل الجماعي والمتواصل من قبل كافة مكونات المجتمع للخروج من الأزمة، فالتداعيات السلبية شملت الجميع دون استثناء، سواء من مالكي رؤوس الأموال والعمال وأصحاب المهن الصغيرة والمتوسطة والتجار والمزارعين أو حتى قطاع المال الذي تسبب في حدوث الأزمة. لذلك، فإن للجميع مصلحة عامة في التعاون والعمل الجاد والمتواصل بغض النظر عن تفاوت المواقف. من هنا نرى أن البلدان الإسكندنافية وأيرلندا تحقق تقدما ملحوظا وكبيرا نحو استعادة القطاعات الاقتصادية لزخم نشاطاتها لفترة ما قبل الأزمة، إذ إن هناك تعاونا لافتا للنظر واستثنائيا بين رجال الأعمال والعمال والحكومات والتي تنسق بصورة مشتركة لتجاوز تداعيات الأزمة، حيث التضحيات والتنازلات والمساومات من قبل كافة الأطراف. وبالنتيجة تم في هذه البلدان خلق ملايين من فرص العمل وجذب استثمارات محلية وأجنبية كبيرة واستعادة أسواق المال نشاطاتها المعتادة، وإذا ما استثنينا أيرلندا، فإن البلدان الإسكندنافية لم تحتج لصندوق الإنقاذ الأوروبي، وذلك بفضل تغلبها على معظم ترسبات الأزمة. في المقابل نجد بلدانا أخرى، كاليونان وإسبانيا تراوح مكانها، حيث تؤدي تصرفات الجميع دون قصد إلى الإسهام في إغراق السفينة، فرجال الأعمال يرحلون استثماراتهم للخارج، وبالأخص لسويسرا والعمال والموظفون مستمرون وعلى مدى أكثر من عامين في مسلسل التظاهر في الشوارع، ما أدى إلى تدني معدلات الإنتاجية وتدهور القطاعات الاقتصادية، أما الحكومات، فإنها تقف عاجزة أمام هذه الظواهر ومكتفية بإمدادات الأموال من صندوق الإنقاذ الأوروبي، حيث ستحصل اليونان على 64 مليار يورو هذا الأسبوع والتي ربما ستتبخر مثلما تبخرت المبالغ السابقة بسبب تشتت فئات المجتمع وعدم سعيها الجاد للاستفادة من مئات المليارات من اليوروات التي ضخت حتى الآن في اقتصادات اليونان وإسبانيا، وذلك على العكس من أيرلندا التي ربما لم تعد في حاجة لمبالغ إضافية وحققت أقصى استفادة من أموال الإنقاذ السابقة. من هنا نجد ارتفاع معدلات البطالة تصل إلى 24% في اليونان وإسبانيا يصاحبها إحجام عن الاستثمار وتقلص في الاستثمارات الأجنبية التي تتوجس من استمرار الاحتجاجات المستمرة وتغير الحكومات والذي لا جدوى منه في ظل عدم الاستقرار المجتمعي. هذان نموذجان بارزان لكيفية التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتكررة، إذ لم يعد الأمر كما كان في السابق والذي يقتصر الصراع فيه بين العمال وأصحاب العمل في كل بلد على حدة، فالعولمة وانفتاح الأسواق والتنافسية العالمية قربت وإلى حد بعيد بين مصالح أطراف الإنتاج في كل بلد، إذ أصبح ما يضر رجال الأعمال يضر بالضرورة العمال والمصالح الاقتصادية للبلد ككل، كما أن النتائج الإيجابية تشمل الجميع في معظم الأحيان. وهذا الفهم المتقدم والصحيح للتطورات العالمية المتلاحقة والسريعة لا يمكن فهمه بسهولة، فهو بحاجة لوعي عال بالمسؤولية والإيمان بالسلم الاجتماعي وتعاون أفراد المجتمع والشعور بالمسؤولية المشتركة، وهو ما يميز المجتمعات الإسكندنافية والتي تملك نظاما رأسماليا فريدا من نوعه ويختلف عن الأنظمة الرأسمالية في بقية أنحاء أوروبا والعالم ويحقق درجة كبيرة من العدالة الاجتماعية، وبالتالي الاستقرار الاقتصادي والسياسي لهذه البلدان. نعم ليس من السهولة تطبيق هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي الراقي في معظم بلدان العالم، إلا أن هناك بلدانا عديدة، بما فيها بعض البلدان العربية، ودول الخليج العربي تحديدا تملك بعض السمات المشتركة، كالرعاية الاجتماعية ويمكنها الاستفادة من هذه التجربة الإسكندنافية الناجحة والتي تشكل نموذجا متقدما لمجتمع تسوده روح التعاون للتغلب على مختلف المصاعب والأزمات والتي لا تخلو منها مجتمعات عصر العولمة، بما فيها الأزمات الاقتصادية المتعاقبة.