15 سبتمبر 2025
تسجيلالشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، واحد من شعراء القطيف المعاصرين، وهو واحد من جيل نادر، رسم خطواته على أديم الحياة بثقة تامة، انتصر في معركته مع الحياة ليكون مثالا تقتدي به الأجيال، جيل ولد وليس في فمه ملعقة من ذهب، ولكنه نشأ في بيئة ثقافية ودينية قادرة على منحه حصانة فريدة في وجه تناقضات الحياة ومفاجآتها غير المأمونة الجانب، هذا الجيل الذي صهرته الظروف في بوتقة الجلد والصمود أمام الكثير من التحديات.. خط لنا طريقا في الزمن الصعب ننتمي إليه باعتزاز. نشأ الخنيزي نشأة علمية على يد والده، وقد أدخله كتاب البريكي الذي كان أفضل الكتاتيب في القطيف في عشرينيات القرن المنصرم، ثم وجهه والده للعمل الديني فقرأ الأجرومية وقطر الندى وألفية ابن مالك ومغني اللبيب، كما قرأ في المنطق والفلسفة وأسرار المعاني والبيان وأصول الفقه. إلى أن انتقل والده إلى جوار ربه، فواجه الحياة وهو لم يبلغ العشرين.. وحيدا إلا من إيمانه وتصميمه على الوصول لمراتب عليا كانت شغله الشاغل، وهدفه النبيل الأسمى، ليصبح واحدا من هذه الكوكبة الفريدة من شعراء الخليج، ولكنه انفرد بين أقرانه بشعره المعبر عن مراحل حياته، وهو أكثر ما يصدق عليه قول القائل بأن الشاعر ابن بيئته، وقد غلب على شعره توجه رومانسي معبر عما مرَّ به من ظروف صعبة، متأثرا بالشعراء المهجريين في رومانسيتهم العذبة، بما فيها من ألوان الحزن، واللجوء إلى الطبيعة بمظاهرها الخلابة وإيحاءاتها الرائعة، فكان شعره مرآة حياته، التي يمكن للمتلقي أن يقرأ سطورها من خلال هذا الشعر بوضوح تام، بما فيها من أحزان كبيرة، نتيجة مرض أو فقد أقرب الناس إليه، وقد أثرت الأجواء العلمية التي عاش في رحابها في تكوين شخصيته الإبداعية، كما أثر يتمه المبكر في الشعور بالمعاناة ومكابدة ظروف الحياة القاسية بمشاعر مرهفة هي جزء من تكوين شخصيته الشعرية، ومع أنه عمل في المحاماة، لكن ذلك لم يعزله عن الشعر، باعتبار أن (الشعر يفرض نفسه رغم الزحام، وهناك قصائد رائعة كتبتها وأنا في انتظار جلسة، بل ربما هبط علي الشعر وأنا خارج من قاعة المحكمة، بعد النطق بالحكم في قضية لها أهميتها، وهكذا ترون أن المحاماة لم تحرمني من مداعبة أوتار الشعر)، هذا ما يقوله، وقد سجل بعضا من سيرته في كتابه: (خيوط من الشمس: قصة وتاريخ) في ظل هذه الأجواء تعمق الحس الرومانسي في شعر الخنيزي، الذي حاصره الإحساس باليتم، وتحمل مسئولية أخوة ترك من أجلهم الدراسة لينتقل من طلب العلم إلى طلب الرزق، قبل أن يتفرغ للتأليف والشعر والأدب. وتجسد قصيدته في رثاء الشاعر علي محمود طه بعضا من ملامح رومانسيته الحزينة ومطلعها: خرَّ عن وكره مهيض الجناح شاعرُ الزهر والصبا والملاح فهوتْ كأسُهُ وفيها بقايا خمرة من طيوفه كالصَّباح ورثائياته تعد من أجمل ما قيل في الرثاء في الشعر العربي المعاصر، ومن ذلك ما قاله في رثاء والده بعد أربعين عاما من رحيله: أبتاه والأعوام مرت مثل أحلام السرابِ وتواثبت أطيافها في مقلتي مثل الحرابِ والأربعون تمر كأنها ليلٌ.. تمر بلا شهابِ وشذا حديثك كالربيع يضوع من زهر الروابي وكأن صوتـَك هاتفٌ حيٌ بأجيال الشباب: عودوا إلى الإسلام عودوا يا بَنيّ إلى الكتابِ وللشاعر قصائد عصماء عن مصر وفلسطين وأطفال الحجارة، ومواضيع وطنية وقومية أخرى. الإبحار في شعر الشاعر الخنيزي ممتع وجميل، في ظلال الكلمة الأنيقة، المكتنزة بأجمل المعاني، والعبارة المجنحة المتوهجة بأصدق المشاعر، والقصيدة الرائعة المعبرة عن حياة حافلة بالصبر الجميل.. والعطاء الأجمل.