14 سبتمبر 2025

تسجيل

الفلسطيني.. وحيداً!

23 أكتوبر 2023

في كل مرة تتعرض فيها غزة لهجوم صهيوني يحاول ألا يبقي عليها ولا يذر، أن يقتلعها ويمحو آثارها، أن يقتلها وأهلها، باعتبارها رمزا حياً لكل فلسطين المحتلة وأملاً في فلسطين الحرة، تفاجئ هذه المدينة الصامدة عدوها كما تفاجئ العالم كله، فتخرج ثانية من بين الرماد لتعلن أنها حية، لأنها ببساطة غير قابلة للموت. عندما قال الاعلامي المصري باسم يوسف في مقابلته الأخيرة مع الاعلامي البريطاني بيرس مورغان، على سبيل السخرية السوداء بأن الفلسطيني لا يموت حتى وإن ادعى ذلك، فإنه كان يشير إلى طبيعة الفلسطيني التاريخية الخاصة التي اكتسبها من سنوات نضاله الطويلة في الداخل المحتل وفي الخارج كله، وإلى موهبته الفطرية في المقاومة لا على صعيد حمل السلاح دفاعاً عن وجوده وحسب بل أيضا على صعيد مقاومة الموت بكل صوره وأشكاله. إنه لا يموت فعلا، هكذا انتبهنا جميعا وبعد كل هذه السنوات الطويلة من الاحتلال والتهجير والقتل المباشر. يسلم الروح لبارئها ويغمض عينيه ويشيع شهيدا. لكنه لا يموت. أي أنه لا ينتهي. لأنه يملك حلما عظيما يبقيه حيا على قيد الأمل والعمل دائما. وهو المتناسل من بعضه البعض جيلا بعد جيل، إذ يتجدد عند كل منعطف تمر به القضية لتعيد تشكيل نفسها بأسلوب مختلف لكن الهدف واحد؛ فلسطين الحرة. نعم.. الصواريخ والقذائف الصهيونية التي تدك غزة ليل نهار، حيث لم يسلم منها بيت ولا شارع ولا مدرسة ولا مستشفى ولا مسجد ولا كنيسة، خلفت وراءها الكثير من الدماء والأشلاء والصرخات والبكاء والأسى والدمار، وهو ما رآه العالم كله على الهواء مباشرة، لكن هذا لا يعني النهاية ولا يعني الموت ما دامت كلمة فلسطين باقية. فوراء كل قصة من قصص الموت الكثيرة هناك، كما نتلقاها محن البعيدين عنها بالجغرافيا المتماهين معها حلما ودما ووجودا، أسرار نعرف بعضها بقدر معرفتنا بالطبيعة الفلسطينية التي اكتسبت خصائصها النفسية طوال سنوات الاحتلال والنضال، ونجهل بعضها الآخر بقدر قدرة تلك الطبيعة الفلسطينية على التجدد دائما وعلى ابتكار ما يلزم من أدوات واستراتيجيات تساعد الفلسطيني على الصمود والبقاء وإن كان وحيدا. والفلسطيني بالفعل وحيد. صحيح أننا كعرب وكمسلمين وكمؤمنين بالحق من البشر الآخرين نتعاطف معه واحتفظنا بحرارة هذا التعاطف على مدى ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن، إلا أنه في مجمله وفي أغلبه يبقى مجرد تعاطف على البعد غالبا. فقدر الفلسطيني في غزة وعموم فلسطين المحتلة أنه يواجه مأساته منفردا، وهو يعرف ذلك تماما ويتعامل وفق معطياته في كل مرة كان عليه ان يواجه الموقف بإلحاح ومن جديد. في حرب غزة الأخيرة، والتي ما زلنا نعيش فصولها الموجعة، مراقبين لها عن قرب عبر الشاشات، ومشاركين فيها على البعد بالتفاعل النفسي والإعلامي وفق قدراتنا الشخصية وبما نملك من وسائل وأدوات، يتقدم الفلسطيني إلى موته المعلن وحياته السرية وحده بمواجهة الآلة العسكرية الصهيونية القاتلة. يتقدم بذات الإصرار الأول، وذات الإرادة القديمة، وذات الحلم المتجدد. ورغم أن النتيجة في الحسابات المباشرة كانت دائما محسومة لصالح العدو المحتل، لأنه يبقى محتلاً لفلسطين، إلا أن هناك حسابات أخرى يعرفها الفلسطيني، كما يعرفها عدوه الصهيوني، تجعله يستمر في التقدم إلى ساحات الموت بطمأنينة العارف بالمصير الأخير. نعم. يتقدم وحيداً أعزل إلا من فلسطين كما يراها أبداً.