13 سبتمبر 2025

تسجيل

النجدة يا أبا القاسم الشابي بلادك في خطر

23 أكتوبر 2013

شاهدت الأسبوع الماضي على شاشة الفضائية التونسية برنامجا متميزا لإحياء ذكرى الشاعر التونسي العبقري أبي القاسم الشابي الذي ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1934 في شهر أكتوبر فنحن إذن نحيي ذكرى وفاته التاسعة والسبعين وحين تابعت مراحل حياة الشاعر أدركت ما لعصره من تشابه وتطابق مع عصر الربيع العربي المهدد بعواصف الخريف وتيقنت أن أبا القاسم الثائر على الجهل والاستكانة والمذلة والاستعمار في العشرينات لو أسعفه الله تعالى بالحياة لكان حاملا لنفس الفأس يهوي بها على الرموس رمسا برمس وينادي بيقظة العقل وتحرير إرادة الحياة في شعوب انحرفت نخبها إلى مزالق التحزب والشقاق وأضاعت قيم الوطن الواحد والأهم والأعلى. وخامرتني فكرة طلب النجدة من روح شاعرنا الفذ الذي هتف شباب الربيع العربي في كل بلدانه برائعته: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر هذا الشاعر العبقري الذي توفاه الله يوم العاشر من أكتوبر 1934 وهو في ريعان شبابه عن سن الأربعة والعشرين بعد أن قدم للعالم العربي قصيدته الأشهر (إرادة الحياة) والتي ضمنها ذلك البيت الذي واكب معارك التحرير العربية من الاستعمار وأنشده المناضلون العرب من المحيط إلى الخليج وهو يرصع اليوم النشيد الوطني لتونس: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر أكبر برهان على عبقرية الشاعر هو خلود أدبه وأبو القاسم هو من هؤلاء العباقرة النادرين الذين لم ينس الناس إبداعهم بعد وفاتهم بل ظل شعرهم يعبر عن ضمائر الأجيال مهما اختلفت الأزمان وتبدلت الأحداث. فأنت تقرأ قصائده اليوم بعد مرور قرن على ميلاده فكأنك بالشاعر يعايش أحداث مصر الفاجعة وإنهيار دولة ليبيا في ظل الميليشيات ودخول سوريا نفق الحرب الأهلية وتخبط تونس في حوار مستحيل رغم استعجالية الأزمة وعلى الصعيد العربي كأن الشابي يدرك العدوان على غزة الشهيدة المنتصرة وهو يخاطب العرب المضطهدين اليوم تحت نير الاحتلال ورصاص النازية الجديدة في فلسطين. حين فتح أبو القاسم عينيه على الحياة اكتشف ما يعانيه شعبه العربي من ويلات الاحتلال والقهر في تونس والجزائر والمغرب وفي الشرق من خلال مجلة أبولو الأدبية المصرية وقارن بثقافته الواسعة بين واقع العرب الأليم ومجدهم العظيم القديم واهتدى إلى أن الذي ينقص الأمة هي الإرادة. فكانت هذه العبارة هي التي تتردد في أبياته الثائرة. ولم يكن أبو القاسم رجل أحزاب حتى لو كانت أحزاب تحرير، فهو لسان الأمة والمعبر عن خلجات ضميرها وهو العاصف والغاضب والداعي إلى الثورة على الأصنام الجديدة. ما أشبه ليلة العرب اليوم ببارحة أبي القاسم: حالة سياسية مشتركة من العجز إزاء العالم وشتات حضاري لم تبلغه الأمة في تاريخها إلا لماما وانقسام الدول إلى طوائف واستقالة النخب حتى من مجرد التفكير. أي نفس الأسباب التي أدت إلى نفس النتائج حين احتل هولاكو بغداد عام 1258 واغتال أخر خليفة عباسي هو المستعصم بالله وولديه وخرب المشرق العربي وحين ضيعنا الأندلس عام 1492 وحين فقدنا نصف فلسطين عام 1948 ثم فقدناها كلها عام 1967، وبعد ذلك استضعفنا الغرب المسيحي وبدأ يطبق مشروع الاستخراب (الذي سميناه باسمه المزيف أي الاستعمار) منذ حملة نابليون على مصر والشام عام 1798 إلى توسع الاستخراب الصليبي ليغطي كامل أصقاع الأمة. وهنا نشأ الشابي متمردا على هزال الأمة ورضاها بالدون وكتب عما نسميه اليوم صراع الحضارات برؤية شاعر استشرف المصير وشخص الداء بل ووصف الدواء. ففي عام 1931 نشر قصيدته الرائعة (الثعبان المقدس) في مجلة (أبولو) وقدم لها نثرا كما يلي: فلسفة الثعبان المقدس هي فلسفة القوة المثقفة في كل مكان فالثعبان في قصيدتي تحدث إلى الشحرور بلغة الفلسفة حين حاول أن يزين له الهلاك، كذلك تتحدث سياسة الغرب إلى الشعوب المستضعفة بلغة الشعر والأحلام حينما تصوغ ابتلاعها والعمل على قتل مميزاتها القومية فتسميها سياسة الإدماج". هكذا قدم أبو القاسم قصيدته للقراء فهو كأنما يصف حالنا اليوم عام 2013 إزاء الغزو العسكري والفكري الذي يسلبنا هوياتنا ويدمجنا في دورة الهلاك المبرمج. ثم تأتي القصيدة لتنقل لنا حيرة الشحرور المسكين وهو يسأل الثعبان الذي يبتلعه قائلا: أين خطيئتي حتى أستحق الموت بين أنيابك؟ فيجيبه الثعبان: لا أين فالشرع المقدس هاهنا *** رأي القوي وفكرة الغلاب وسعادة الضعفاء جرم ماله *** عند القوي سوى أشد عقاب إن السلام حقيقة مكذوبة *** والعدل فلسفة اللهيب الخابي لا عدل إلا إن تعادلت القوى *** وتصادم الإرهاب بالإرهاب وهذه القصيدة قمة الوعي بصراع الحضارات من منظور غلبة الأقوى دون حق، وهي كأنما تكمل رائعة الشاعر (إرادة الحياة) التي لا يعرف الناس منها سوى بيتين: إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر ولكن القصيدة تنقل لك جواب الحياة عندما سألها الشاعر عن المفضل لديها فتقول الأرض: أبارك في الناس أهل الطموح *** ومن يستلذ ركوب الخطر وألعن من لا يماشي الزمان *** ويقنع بالعيش بين الحفر هو الكون حي يحب الحياة *** ويحتقر الميت مهما كبر فلا الأفق يحضن ميت الطيور *** ولا النحل يلثم ميت الزهر