14 سبتمبر 2025
تسجيلعاشت العاصمة اليمنية صنعاء أياما دامية لم تشهدها منذ عقود أزهقت فيها الكثير من الأنفس وأهرق دم كثير وداست قممها الشامخة أقدام يقول أصحابها أنهم من أنصار الله ويدافعون عن مظلوميات أبناء الله.. وبعد جهود وتنازلات من خصوم وقع الحوثيون على اتفاق السلم والشراكة الوطنية مع جميع القوى السياسية اليمنية برعاية مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن لحل الأزمة السياسية لكن الحوثيين رفضوا التوقيع على الملحق الأمني للاتفاق الذي يطالبهم برفع مخيمات الاعتصام ووقف إطلاق النار ورفع مظاهر السلاح من العاصمة ومداخلها وانسحابهم من المناطق التي سيطروا عليها.. لكن أهم بنود الملحق تتضمن نزع سلاح جماعة "أنصار الله" وتسليم الأسلحة الثقيلة والخفيفة من قبل كل المليشيات المسلحة وكل الأطراف التي استولت على أسلحة مملوكة للدولة تنفيذا لمخرجات الحوار الوطني وتمكين الحكومة من ممارسة صلاحياتها وبسط سيطرتها على التراب اليمني. الحوثيون كانوا بدأوا اعتصاماتهم في الثامن عشر من أغسطس الماضي على مداخل صنعاء لتحقيق مطالب معلنة وهي إسقاط الجرعة الاقتصادية التي بسببها رفعت أسعار المحروقات وإسقاط حكومة التوافق الوطني والإسراع في تطبيق مخرجات الحوار الوطني التي ظلت كل أطياف العمل السياسي ومنظمات المجتمع تتحاور مدة عشرة أشهر برعاية أممية وخليجية من أجل التأسيس لدولة مدنية حديثة ترفع فيها راية القانون والعزة والكرامة والتعايش بين كل اليمنيين على اختلاف مذاهبهم وحتى أديانهم.. لكن اعتصامات الحوثيين التي ساندها يمنيون طحنتهم الضائقة الاقتصادية سرعان ماتحولت إلى اعتصامات عسكرية ومحاولات لفرض سلطة أمنية بديلة وهنا تدخلت قوات الجيش والأمن التي كانت تحاول فرض هيبة الدولة وسلطة القانون وهنا فقط بدأت تتكشف الأهداف الحقيقية لجماعة الحوثي والانقضاض على العاصمة كان الهدف الرئيس من كل حروبها مع الدولة اليمنية وأن يكون الحاكم من البطنين.. وقد تحقق لها ما أرادت بالنسبة للعاصمة إذ وجهت فوهات الدبابات والمدافع نحو رموز السيادة اليمنية من التلفزيون إلى مقر قيادة المنطقة السادسة وتوالي سقوط المؤسسات السيادية من الإذاعة إلى رئاسة الوزراء والبنك المركزي وحتى القيادة العامة للقوات المسلحة اليمنية والسيطرة على مقر القوات الجوية.. جماعة الحوثي حاولت أن تدافع عن ما قامت به بأنه كان لرد اعتبار من قتلوا من المعتصمين والمتظاهرين ثم ما لبثت أن قالت بأن هذه المؤسسات انضمت للثورة الشعبية وثورة المظلمومين التي هللت لها كل وسائل الإعلام الإيرانية ووسائل إعلام الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح.. زعيم جماعة أنصار الله الذي يصف نفسه بأنه من عترة رسول الله وأهل بيته جعل أتباعه ومريديه يطبقون مقولة الشافعي: لابد من صنعاء وإن طال السفر رغم أنه ينظر إلى من يتأسون في المذهب الشافعي بأنهم أقل إنسانية وحظوة في الحياة ولذلك فإن مقامه الكبير لم يسمح له بالقدوم إلى صنعاء ليوقع على الاتفاق ربما حرصا على عدم منح القداسة فهو اتفاق سياسي قال عنه أحد أعضاء المكتب السياسي لجماعة أنصار الله بأنه قد لا يطبق إلا إذا تمكن الرئيس اليمني من إجبار اللواء علي محسن وحلفائه على الوفاء بالتزاماتهم وهذا برأيي تبرير قد يجعل الاتفاق حبرا على ورق خصوصا وأن علي محسن وشخصيات سياسية لاتزال هدفا للتصفية الجسدية. بغض النظر عن تطبيق الاتفاق من عدمه فإن قوى سياسية وأهمها حزب التجمع اليمني للإصلاح قد رأت أن تترك الحوثي لوحده يلمم ما بعثره بما سماه الرئيس عبد ربه منصور هادي انقلابا.. لكن ما يحير اليمنيين وكثير من المراقبين كيف سقطت صنعاء بهذه السهولة بيد الحوثيين لدرجة أن خبيرا استراتيجيا أجنبيا سألني: مالذي يجري.. الوضع بنفسجي؟قلت له نعم هو بنفسجي ورمادي وأي لون يمكنك تخيله حتى بإمكانك أن تقول (أخضري) نسبة إلى اللون الأخضر الذي يحبه اليمنيون فهو لون شجرتهم المفضلة القات ولون قبة الحسينيات الجديدة في صعدة وربما ستنشأ أخرى في محافظات أخرى وبإمكانك ياصديقي الاستراتيجي أن تسجل هذه الملاحظات وتحللها لوحدك: - حروب الدولة مع الحوثيين... الفرقة الأولى مدرع تكلف من الرئيس السابق علي عبدالله صالح بقتال الحوثيين وفي الوقت نفسه يكلف قائد الحرس الجمهوري نجل الرئيس المخلوع والسفير اليمني الحالي في دولة الإمارات بإمداد الحوثي بكل أنواع الأسلحة خاصة تلك التي أمدته بها واشنطن لمحاربة تنظيم القاعدة.- وزير الدفاع الحالي محمد ناصر أحمد ترك اللواء 310 بقيادة القشيبي ينافح عن عمران دون دعم لوجستي رغم إصدار أمر لواحدات بالتحرك لإسناد اللواء ثم صدر أمر آخر بأن تتوقف عند تخوم عمران حتى سقطت عمران وسقط اللواء 310 وقتل الحوثييون قائده ومثلوا بجثته.- عند وصول الإمدادات (الغذائية) لمعتصمي الحوثي في العاصمة أصدر قائد المنطقة العسكرية السادسة أوامره برفع الحواجز العسكرية من مداخل العاصمة الشمالية فدخل كل المدد وبدأ الزحف حتى أعطيت الأوامر للوحدة العسكرية التي تحمي التلفزيون اليمني بتسليم كل مالديها لأنصار الله.. - تسلم أنصار الله العهدة من مخازن الوحدة العسكرية الحامية للتلفزيون الرسمي رمز السيادة اليمنية ووزعوها بالعدل والمساواة على أهداف أخرى حتى سقطت العاصمة.- المبعوث الأممي جمال بن عمر ظل ثلاثة أيام في صعدة يبذل جهودا مضنية لإقناع الحوثي بالتوقيع على الاتفاق الذي أعدته لجنة وساطة رئاسية سابقة لحل الأزمة لكن الزعيم الروحي فكر وقدر ثم فكر وقدر إلى درجة إن اليمنيين من فرط تلهفهم وترقبهم ونفاد صبرهم أطلقوا نكاتا منهم من قال: بن عمر يخضع لمراسم الضيافة العربية التي لابد أن تكون في ثلاثة أيام بلياليها بينما علق آخرون أن الحوثي يفاوض بن عمر على تغيير اسمه إلى جمال بن علي.. - مسلحو الحوثي يواصلون عمليتهم العسكرية في صنعاء والسعي لتحقيق أهدافهم بمباركة غربية وإقليمية وعربية وهي تدمير المقرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لحزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون) وكذلك محاولة تصفية الشخصيات العسكرية والقبلية التي تتحالف مع حزب الإصلاح بينما ينتظر الرئيس اليمني وسفراء الدول العشر والزعيم الحوثي أو من يمثله لتوقيع اتفاق سياسي.- لم تعلن أي سفارة غربية غلق أبوابها أو سحب موظفيها لدواع أمنية ولم يصدر أي بيان رسمي من دول عربية وأجنبية كتلك التي صدرت خلال دقائق من وقوع الأحداث في مصر مثلا.- تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية لم ينبس ببنت شفه وهو الذي أصم أذاننا بالشعارات ومحاربة الكفار وحتى الروافض.والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بعد التوقيع على اتفاق السلم والشراكة الوطنية.. كيف ستسرد صنعاء شموخها وعزتها بعد أن استضعفها الحوثي في لحظة ضعف وغفلة من التاريخ.. ما هي مآلات العملية السياسية في اليمن؟ هل سيقنع الحوثي بما حققه أم ستمضي به نشوة النصر إلى تحقيق حلم (البطنين) ورفع العلم الأخضر الذي كان قبل 1962 وتصفية كل خصومه؟ وهل ستتحول جماعة الحوثي إلى العمل السياسي بأدواته السلمية بعد أن أشبعت نهمها العسكري واستعرضت قوتها على خصومها بل وحولتهم إلى موقع الدفاع بعد أن كانوا في مواقع الهجوم والقوة.؟ هل سيبقى اليمن موحدا؟ ورغم كل ما يقال وسيقال عن هذا الاتفاق ومآلات الوضع إلا أن اليمنيين لا يزالون يتمتعون بحكمة من نوع ما، تخيل عزيزي القارئ لو لم يوقع الجميع على الاتفاق؟ بل تخيل لو انساق حزب التجمع اليمني للإصلاح إلى المواجهة والحرب ووزع البندقية على الملايين من أعضائه... إنها حكمة اليمنيين فعلا.. نتمنى أن تتجلى يوما في التنمية وبناء الإنسان وأن تغادر اليمن ثقافة الحرب والصراع العبثي.