12 سبتمبر 2025

تسجيل

الفلسفة الوضعية وأثرها في تخريب العقل المسلم

23 أغسطس 2023

انتهينا سابقا إلى أن الفلسفة الوضعية كانت الباب الذي دخلت علينا منه كل الشرور. وبتعريف الفلسفة من منظور إسلامي، بأنها شكل من أشكال الغلو فيكون المولي عز وجل قد حذر منها في أكثر من آية، منها «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ». وبهذا ينطبق عليها ما جاء في «فتح الباري» لابن حجر العسقلاني، في وصْفه التنطع، أنها «تكلُّف الفصاحة في الكلام، واستخدام غريب الألفاظ، والبحث عن أمور مغيبة وَرَدَ الشرع بالإيمان وترك كيفيتها». وهنا يكون الرسول الكريم ﷺ أيضا قد حذر منها في أحاديث كثيرة منها (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ). ومنها أيضا قصة المنافق المتنطع الذي جاءه ﷺ فقال له اعدل يا محمد، وقصته معروفة وظهرت تجلياتها في الفتنة الكبرى. كما تنبه لهذه العملية التخريبية علماء الإسلام، فقال الشافعي (القرن الثاني) «حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالنعال». لكن عندما تصدى لها الإمام أبو حامد الغزالي، بقوة، أواخر القرن الخامس، كان شرها قد استفحل، وأصاب عقل الأمة. بل وُجد في ذاك الزمان وبعده، مِن المسلمين والمستشرقين، من يخالفه، وينصر الفلسفة والمتفلسفين، أمثال ابن رشد. لكن صار الإجماع إلى عدم جواز الاشتغال بالفلسفة إلا لبيان ضلالها، مع تفضيل الابتعاد عنها بالكلية، إذ قيل إن الغزالي نفسه لم يسلم من أفكارها رغم محاربته لها. على كلٍ، دخلت الفلسفة الغربية إلى العقل الإسلامي لتصب الزيت على نار التشويه الفكري الذي كان قد أحدثه ابن سبأ، من إدخال التنطع والتشبيه والتجسيم على الفكر الإسلامي، والذي تشعب من أراجيفه وتلفيقه كل ما ظهر في تاريخنا بعده من فرق ضالة، مثل الخوارج والشيعة والمعتزلة والباطنية والقدرية والجبرية، وتفريعاتها، والتي جمعها المستشرق يوهانس هالم تحت مسمى الغنوصية في الإسلام، وأثبت أنها من أصل واحد، كما أشرت سابقا. وقد سبقه وسبق غيره في ذلك أبو الفتح الشهرستاني، في القرن السادس، في كتابه الموسوعي «الملل والنحل» الذي فصّلها تفصيلا موسوعيا وردها جميعا إلى فتنة إبليس اللعين، وجداله مع الملائكة. وقبل الخوض أكثر في هذا البحث أود أن أوضح أنه ليس بحثا دينيا ولا تاريخيا، لكنه يأخذ من الدين والتاريخ بقدر ما يوضح الخط الناظم له وهو تتبع كيفية تشكُّل العقل العربي المسلم وكيفية تأثره سلبا بحوادث الإرجاف والتشويه وأن هذا هو السبب المُبِكر والرئيس وراء تخلف الأمة، وأن الانهيار لم يبدأ فجأة في القرن الخامس. كما سنوضح لاحقا أن العقل العربي انفصل في وقتنا الحاضر عن العقل المسلم وعاد كما كان قبل أن يدخل عليه الإسلام بدرجة كبيرة. وقد فند د. علي سامي النشار في كتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» زيف الهالة التي أحاطت الفلسفة اليونانية لقرون. كما بين أن أمثال الكِندي (الذي يعد مؤسس ما سُمي بالفلسفة الإسلامية) والفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا فلاسفة مسلمين لكنهم لم يعبروا عن فلسفة إسلامية حقيقية، بل عن فلسفة يونانية محضة كليا وجزئيا. وأوضح أن ما يمكن تسميته فلسفة إسلامية هو، مثلا، علم أصول الفقه، وعلم الحِجاج أو علم الكلام، وعلم الاجتماع، والجرح والتعديل. لذلك سنجد أنه وقع خلط كبير في مسمى الفلسفة الإسلامية حتى وقتنا الراهن. هنا نصل إلى الأضرار التي أصابت الأمة جراء عملية التشويه المنظمة التي بدأها ابن سبأ وقبيله ولم تتوقف للآن، ويمكن وضعها تحت عناوين أربعة كبرى، هي الخسائر الفكرية، والخسائر البشرية، والخسائر العلمية، والخسائر المادية. فمع تعدد النحَل وكثرة التلبيس والإرجاف شهدت الأمة فترات كان يصعُب فيها تحديد مذهب الرجل أو العالم من العلماء، حتى اختلط حابل الأفكار بنابلها، وتشوهت عقول الكثير. والأخطر أن كثيرا من تلك الفرق، إما استحوذت على رأس السلطة (المأمون مثالا)، أو لجأت إلى السلاح والعنف لفرض آرائها. وكان أولها الخوارج بما أثاره ابن سبأ من نزاعات وحروب واغتيالات، وانقلابه على سلطة الخلافة ذاتها. حتى إن المرء ليعجب من كم الدماء التي أريقت في صفوف المسلمين والتي أحسب أن عدد ضحاياها يفوق عدد من استشهدوا في حروب الأعداء أضعافا مضاعفة. وكان من أخطر تلك الفرق الرافضة، وحربهم على الدين كله، والمعتزلة الذين أثاروا فتنة خلق القرآن، والباطنية الذين تفرع منهم القرامطة الذين اعتدوا على الحرم وسرقوا الحجر الأسود، والإسماعيلية الحشاشين الذين أعملوا القتل في أبناء وعلماء الأمة ولم يوقروا عالما ولا مُصلحاً، حتى نظام الملك الوزير الأشهر صاحب النهضة التعليمية لدى السلاجقة، وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي، واستولوا على مناطق كبيرة من الدولة الإسلامية مما هز استقرارها، وأهدر أرزاقها. الطامّةُ أن الفتنة لم تقف عند صراع الفِرق بل إنها ضربت أبناء الفرقة الواحدة. من ذلك شيوع الاختلافات بين الحنفية والشافعية من أهل السنة، مثلا، حتى وصل الأمر في القرن السادس أنهم لم يكونوا يتزاوجون. بل أوردت كتب التراث أن المسجد الحرام كان به آنذاك مقام منفصل لأصحاب كل مذهب، من الأربعة، يُصلّون إليه. وقد كان من نتيجة تلك الشعوذات التي تسللت إلى عقل الأمة أن تراجع العلم والإيمان وحل محلهما الجهل والتطير. فمثلا عندما دخل التتار بغداد، (القرن السابع)، كان كثيرون ممن يلوذون بالشعوذة ويتعلقون بالأولياء يقولون «ياخائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر». وفي مصر، لاحقا، كانوا يشيعون أن الإنجليز لن يتمكنوا من احتلالها وفيها قبور أولئك الأولياء المشهورين. لكن ذلك لم يمنع سقوط بغداد ولا ذبح أعداد هائلة من سكانها، ولا من احتلال مصر والعالم الإسلامي كله، وهو ما رصده بيجوفيتش في كتابه «عوائق النهضة الإسلامية». وللحديث صلة.