15 سبتمبر 2025

تسجيل

الذكرى العشرون لإيقافي وقصتي مع إنتربول

23 أغسطس 2012

يوم 25 أغسطس 1992 كان يوم ثلاثاء صيفيا عاديا في قرية (شفروز) الجميلة في ضواحي باريس وكنت أسكن بيتا قديما تقع في دوره الأرضي صيدلية تعمل فيها زوجتي وكان ابني (الطيب) ينام هادئا مطمئنا وهو في سنته السادسة من العمر. على الساعة السابعة سمعنا رنة جرس الباب فنزلت زوجتي معتقدة أن أحد سكان القرية في حاجة استعجالية إلى دواء ما لأن الصيدلاني كالطبيب يمتد عمله للطوارئ كامل النهار والليل. إلا أن المفاجأة هذه المرة كانت من الحجم الثقيل إذ عادت المرأة لتقول لي في رفق: "لا تزعج ولا تخف فإن بالباب شرطيين من الشرطة العدلية الفرنسية مكلفان بإيقافك على ذمة طلب جلب تقدمت به "السلطات" التونسية عبر الأنتربول". وفي الحقيقة لم أتوقع مثل هذا الإيقاف ولم أحتط له استباقيا بطلب اللجوء السياسي مثلا فقد كنت أعتقد أن بلاهة الطاغوت التونسي لها حدود وأن الطاغية يدرك بأن فرنسا دولة قانون ولديها مؤسسات دستورية تتجاوز التعاطف السياسي لتحمي الأبرياء الملتجئين لحماها. والغريب أن هذا الطلب التونسي جاء بعد ستة أعوام من خروجي من تونس والسبب هو أن الرئيس المخلوع كان يعتقد أو لديه معلومات بأنني مع الصديق محمد مزالي رئيس حكومة تونس المنفي مثلي (رحمة الله عليه) وأحمد بنور وزير الدولة للدفاع ثم للداخلية (في تونس اسم المنصب هو كاتب دولة) المناضل الصامد ضد الطاغوت والمنفي مثلي أيضا أننا الثلاثة اشتركنا في توريط شقيق الرئيس المنصف بن علي في قضية مخدرات بباريس حيث حوكم بإحدى عشر سجنا وقبض عليه في مطار باريس متلبسا بتهريب أموال ترويج المخدرات ولكنه غادر التراب الفرنسي بتواطؤ مشترك بين جهازي الدبلوماسية والأمن في البلدين. المهم كانت "جريمتي الحقيقية" وجريمة مزالي وبنور هي مقاومة الفساد المتفشي في أعلى هرم السلطة أما الملفات الكيدية التي طبخها لنا "وزير الظلم" المسمى رسميا "وزير العدل" عبدالرحيم الزواري والقاضي المسخر حسن بن فلاح فهي ملفات تتعلق بسوء تصرف واختلاس أي من نوع قضايا الحق العام التي تبدو وكأنها لا علاقة لها بالسياسة وهي القضايا التي طالت كل المقاومين للطاغوت في ذلك العهد. علمت بعدئذ أن عبدالرحيم الزواري وزير العدل! آنذاك هو الذي أقنع بن علي بأنه يستطيع جلب مزالي والقديدي وبنور مكلبشين من فرنسا خاصة أن جهاز أمن الدولة نقل لبن علي أني ألقيت محاضرة في فضاء (لوبورجيه) أمام عشرة آلاف مسلم اجتمعوا ضمن مؤتمر الجمعيات الإسلامية في أوروبا وكانت المحاضرة حول الوحدة الإسلامية وأمجاد الخلافة الراشدة. وهو ما أثار ضدي في ديسمبر 1991 موجة من شتائم الإعلام الفرنسي اليميني المتطرف نقلتها "بأمانة" الصحف التونسية كبرهان على ما أسمته "انتماء القديدي للتيار السلفي النهضاوي الإرهابي". ولنعد إلى يوم 25 أغسطس قبل عشرين عاما بالضبط لأقص حكاية الإيقاف فقد أخذني محافظ الشرطة (لوجندر) وزميله (فوكاد) لمحكمة (فرساي) بعد أن انحنيت على سرير ابني وقبلت جبينه وهو نائم مودعا قبل مواجهة مصيري المجهول. وكانت المفاجأة في بهو المحكمة التي وصلناها الساعة الثامنة: جموع غفيرة كانت في انتظار قدومي لمساندتي وشد أزري وتوجيه صفعة لنظام الفساد والاستبداد والسر هو أن زوجتي أعلنت حالة طوارئ في بيتنا وأعلمت أصدقائي بالهاتف بخبر إيقافي فهرع للمحكمة قبلي رئيس حكومة تونس السابق صديقي محمد مزالي ورفيق الكفاح والوزير أحمد بنور ومعارضون توانسة شجعان من بينهم د. أحمد المناعي الخبير الأممي ود. منذر صفر اليساري النبيل والمازري الحداد الواقف آنذاك ضد كل المظالم ود. مجيد بودن المحامي والمضطهد وجاء من شرفاء الفرنسيين (روبير فردييه) رئيس المنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان و(ويليام بوردون) المحامي والمدافع الشرس إلى اليوم عن كل ضحايا القمع في العالم العربي كما جاء صحفي من وكالة (فرانس برس) الرسمية للأنباء الذي أذاع برقية فورية باعتقالي وتعرضي للقتل في حال تسليمي للنظام. وللأمانة فقد هندس كل هذه التعبئة صديقنا طيب الذكر رحمة الله عليه علي السعيدي الذي اغتيل سنة 2003 في تونس في ظروف غامضة وهو الذي جند من أجلي رجلين فرنسيين شهيرين يومئذ هما الكاتب (جيل بيرو) ورجل الكنيسة بطريق كاتدرائية (إفرو) المنشق والمعروف بمواقفه المشرفة (منسنيور جاك غايو) وعندما شاهد حاكم التحقيق السيد (دوجاردان) هذا الحشد الكريم يلفني ويغمرني بتعاطف صادق بدأ يداخله الشك في أن قضيتي سياسية وأن نظام تونس تحرك بشكل كيدي ولكن المنقذ الحقيقي لي من هذه المؤامرة كان صديقي الوزير الفرنسي (برنار ستازي) الذي هاتف زميله وزير العدل (ميشال فوزال) وشرح له خفايا العملية فأصدر الوزير للنائب العام وكيل الجمهورية بمحكمة (فرساي) أمرا بإطلاق سراحي وهكذا كان فتهللت وجوه الحاضرين وهلت علي التبريكات بالنجاة من مخالب وأنياب عصابة السوء وخرجت من قصر العدالة مقتنعا بأن الله سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل وبأن نصر الله قريب وبأن العاقبة للمتقين. فأغلب من ظلمونا وشردونا وأخرجونا من بيوتنا بغير حق هم اليوم إما في السجون أو في المنافي أو موصومين بعار السكوت عن الحق غفر الله لهم ولنا وجعل عذابات جميع الصابرين في ميزان حسناتهم. ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة معاناتي الطويلة مع إنتربول التي استمرت عشرة أعوام لأنني كنت مطلوبا في كل مطارات العالم ما عدا مطارات فرنسا ودولة قطر التي أوتني وأكرمت مثواي ونصرتني على الطغمة. وتواصلت الملاحقات ضدي إلى 2006 وأكلت تلك الصحافة المأجورة لحمي حيا لمجرد نصيحة صادقة على قناة الجزيرة أو تشكيل لجنة عالمية للدفاع عن البروفسور منصف بن سالم اشتركت فيها مع د. منصف المرزوقي. ولكن هذه العذابات تبدو لي بسيطة ورحيمة أمام استشهاد أبرار الوطن وسجونهم وفواجعهم لكني أسوق هذه التجربة للشباب الذي لم يعشها أملا في أنه سيلغي المظالم إلى الأبد ويبني وطنا لكل مواطنيه.