15 سبتمبر 2025

تسجيل

مجلة (الفكر) ومغامرة التأصيل المجهض

23 مايو 2016

لم ينس بعض المثقفين التوانسة هذا الشهر مجلة مجاهدة في ذكرى بعثها قبل استقلال تونس في أكتوبر 1955 وهي مجلة (الفكر) التي أسسها وأدارها الوزير المثقف محمد مزالي رحمة الله عليه على مدى ثلث قرن ونفس هذه الذكرى هي أيضا (ويا لبؤس الثقافة) ذكرى موت المجلة سنة 1986 حين تمكن زين العابدين من السلطة قبل أن ينفرد بها ويقع نفينا من بلادنا فتوقف إصدارها وإلى الأبد. وكنت أنا صحبة الصديق محمد مزالي في منفانا الباريسي بإرادة الحكام الجدد الذين أبعدونا وقتلوا المجلة. وشعرنا في منفانا آنذاك أن صفحة نيرة من الفكر التونسي والعربي طويت بأيدي الذين أعطوا للثقافة بعدنا معاني أخرى اقتصرت على الرقص والغناء ودق الطبول وهز البطون حتى سمعنا عن الدكتورة فلانة في فنون الرقص والدكتور فلان في النوتة الموسيقية وقلنا في منفانا إن زمننا نحن انقضى ومضى ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه وانسحب (أو سحبوه) خارج الوطن وخارج الثقافة الرسمية الجديدة المبشر بها في عهد التحول ولا حول ولا قوة إلا بـالله. كانت مجلة (الفكر) منارة بشهادة عدد كبير من الباحثين احتضنت إنتاج الكتاب التوانسة والمغاربيين والعرب وقامت بأداء رسالة تاريخية وهي تعريف المغاربيين بقضية فلسطين وبالكتاب المشارقة وتعريف أشقائنا المشارقة بالفكر المغاربي وبقضية تحرير الجزائر ولم تكن الجزائر استقلت بل دشن المجاهدون فيها عهد المقاومة المسلحة المباركة كما أن تونس والمغرب لم يستكملا بعد مقومات استقلالهما. فكانت (الفكر) رسالة شهرية جريئة في الوطنية والكفاح إلى جانب دفاعها المستميت عن اللغة العربية وأصالة شعوبنا وأداة التعريف بأمجادنا والتبشير بتحررنا الكامل ثقافيا وحضاريا رغم تصادمها مع التوجهات التغريبية السائدة رسميا. ثم إن (الفكر) لم تتردد في نشر النصوص الأدبية الأكثر طلائعية وإبداعا رغم تصادمها مع التوجهات التقليدية السائدة أدبيا فكسرت (الفكر) بعض أصنام القديم الموروث المتداول لتساند نصوص كتاب مجددين ثبت مع الزمن أنهم يعبرون بصدق عن روح العصر وضمير أمتهم أمثال البشير خريف وعز الدين المدني والحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي وفريد غازي وغيرهم كثيرون ممن لا أستطيع ذكرهم وتعدادهم. وهؤلاء هم أباء الطليعة الأدبية الراهنة التي ما تزال تبدع. ولا بد من القول إننا عندما فتحنا عيوننا نحن جيل ما بعد الاستقلال أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال فأسسنا تيارا عروبيا ينادي بالتعريب ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى وكان زعيم هذا التيار هو المناضل الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه وقد اجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لمدة واحد وثلاثين عاما من 1955 إلى 1986 اغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة وتاريخه حافل بالإنجازات وخدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية والتعليم ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم والآداب والفنون والفلسفة والسياسة بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو وفولتير وفيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا بتاريخنا وبالتالي نشأ جيلنا وهو جاهل تقريبا بكل ما ومن صنع هويته وأسس حضارته فقد غادر الاستعمار أرضنا وظل مستعبدا أرواحنا ووجداننا.وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الاستعمارية الجديدة تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الاستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الاضطهاد والملاحقات والمنافي والسجون غفر الله لمن شردنا وأجهض رسالة التغيير والتأصيل.وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد اعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض تماما حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي. وهذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة التقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها ولا ضدها وهو الخيار الأخطر. ليس من الأمانة العلمية أن نعلن انفرادنا نحن العرب باستعادة الوعي بقضية الحضارة وملف الهوية فالعالم من حولنا شرقا وغربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية مع اختلاف المنطلقات وتباين الأهداف. فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الاسترتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي وتوسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبرالية العلمانية على ما سواها ودعوة الأمم الأخرى للاستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.وفي الحقيقة لم يبدع برنارد لويس ولا صامويل هنتنجتون ولا فرنسيس فوكوياما نظريات جديدة لكنهم أعادوا صياغة النظريات الاستعمارية والاستشراقية القديمة في شكل معاصر وصبوها في قوالب اللغة الحديثة المعولمة. فجدهم الفرنسي "إرنست رونان Ernest Renan" كان يقول في أواخر القرن التاسع عشر: "إن من واجب الحضارة الغربية أن تمدن المتوحشين وتخضعهم بالقوة لسادتهم البيض حتى يتعلموا قواعد المدنية ويتمتعوا بثمارها تلك رسالة الجنس الأبيض".ووجد الاستعمار في هذا المنظر (من التنظير لا من النظر) وسواه كثيرون ما به يبررون الغزو والاحتلال لنصف الإنسانية بل وما يبرر الاستعباد والنخاسة وتجارة الرقيق. ولم يضف هنتنجتون إلى النظرية الاستعمارية سوى شكلها الجديد أي الإقرار بأن عصرنا الراهن لم يعد عصر الحروب العسكرية التقليدية بل أصبح عصر صدام الحضارات وبالطبع فإن هذا الصدام حسب استنتاجهم سيتوج بانتصار الحضارة الغربية وكذلك فعل برنارد لويس بأكثر حدة وتصميما إلى درجة أنه أصبح المرجع الأساسي لسياسة جورج بوش الابن باعترافه يستلهم منه عقيدته العسكرية في حربيه على أفغانستان والعراق أما فرنسيس فوكوياما فحسم المعضلة بالانحياز إلى الحل النهائي لنفس هذا الصراع بإعلان نهاية التاريخ بسيادة اقتصاد السوق والقيم الليبرالية في العالم. وسبق للرئيس الأمريكي الراحل نيكسن أن نعت انتصار العالم الحر على المعسكر الشيوعي بأنه نصر من دون حرب.ومن نافلة القول التأكيد بأن العقيدة الحضارية للمحافظين الجدد إنما هي محاولة تطبيق نظريات هؤلاء المفكرين على واقع العلاقات الدولية ثم العمل على إعادة ترتيب هذه العلاقات الدولية إما بالدبلوماسية أو بالحرب.