27 أكتوبر 2025
تسجيلتجمع المعارضة السودانية الذي يسمي نفسه (قوى الإجماع الوطني) ربما كان المكان الوحيد الذي يستمع إلى ما يقول الشيخ الترابي بقدر من الجدية والاحترام رغم مأخذه الراسخ على الشيخ بأنه هو شخصيا وليس أحدا غيره الذي ساق السودان إلى أم محنه الحالية ونعنى بها محنة انفصال الجنوب. وذلك حين دفعت حروب دولة الشيخ الجهادية الجنوبيين دفعا نحو الانفصال بعد أن تأكدوا أنهم مواطنون من الدرجة الثانية يؤخذون غلابا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وتلت محن للفساد المالي، والأخلاقي، واختراق سيادة الدولة، بقبول تحويلها الى حديقة على الشيوع الاقليمي والدولي، تتضرع فيها الجيوش الأجنبية وهي تقوم بمهام سيادية نيابة عن حكومة البلد مثل مهام حماية أبناء الشعب السوداني من فتك حكومتهم بهم، أو حمايتهم من الفتك ببعضهم البعض أو توصيل الغذاء والدواء والكساء للمحتاجين منهم والمرضى. بالإضافة إلى جيوش المنظمات الدولية التي لا تحصى. اعترف الشيخ الترابي الذي لا تنقصه الشجاعة، اعترف أمام تجمع طلابي تابع لحزبه أنه يشعر أنه مسؤول عن بعض الذي يجري في جنوب السودان أو كما قال. التاريخ سوف يسجل أن مسؤولية الشيخ الترابي تتسع لتشمل ما يجري في السودان بشقيه. وبدأت هذه المسؤولية يوم ارسل نفسه سجينا الى سجن كوبر القومي مع وقف الأعمال الشاقة. وأرسل عميدا مظليا اسمه عمرحسن أحمد البشير إلى القصر رئيسا. وقدم الثنائي الحريف عروضا مسرحية استمر عرضها على مدى ربع قرن ليكتشف الشيخ أنه أكل يوم جدع الثور الأبيض خارج السياج لتأكله السباع المتلمظة لمذاق السلطة الشهي. الثور الأبيض المأكول كان هو النظام الديمقراطي الذي استعاده الشعب من براثن دكتاتورية باطشة فى أبريل 1985 قبل أن تطيحها مجددا المجنزرات الثقيلة في ذلك الصبح الحار. صبح الجمعة الثلاثين من يونيو 1989 بالتحديد. كانت كبيرة جدا البشارات التي رافقت البيان الأول على انغام المارشات العسكرية: الشعب سوف يأكل مما يزرع. وسوف يلبس مما يصنع. وسوف يفوق العالم أجمع. كان ذلك كله على ذمة البيان الأول. ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن صاحب النشيد. فالشعب لم يلبس مما يصنع لأن الكثير من المصانع ماتت بأمراض نقص المناعة الصناعية. والشعب لم يأكل مما يزرع، لأن الزراعة شالت نعامتها يوم اغتيل شيخ المشاريع الزراعية في العالم كله حين وصف له دواء فاسد فصار يمشي الهوينى يترنح بين السقوط والاعتدال. وقلّ معروضه. وصغر ماعونه. ولم تعد قصعته تتسع لكل الأيادى المدودة. ثم توالت المحن: التعليم المجاني ذهب أدراج الرياح. والعلاج المجاني ذهب هو الآخر. وذهب على اثره طيران الشمس المشرقة. والخطوط البحرية حتى بيعت بعض سفنها حديدا خردة. وذهبت الاقطان التي كانت تغطى وتستر. وذهبت الصحافة الحرة الفارسة، وانزوت الكلمة الشجاعة التي ناصبت حتى المستعمر الغشيم ذات يوم وغنت فى ذمه أعنف الأناشيد: يلا يا غريب، غور، روح إلى بلدك. واختتمت المأساة بالاحتفال المجسم الذي استلم فيه رئيس السودان علم بلده (المستعمر) من رئيس الجنوب (المحرر) للتو! تماما كما نزّل المحجوب علم دولتي الاستعمار من السارية ليسلمه الأزهري الى مندوبي الدولتين المغادرتين. لقد غادرنا الفرح في ذلك اليوم المشئوم حين غادرنا اشقاء كنا نعزهم وكانوا يعزوننا. وبعد ما هو حجم المفاجأة التي يمكن أن يقدمها الشيخ الترابي للشعب السوداني. هل يعترف الشيخ الجريء أنه فرض على الجنوب خيار الانفصال بحروبه الجهادية في صيف العبور وفي الميل أربعين. هل يعلن الاستعداد للسعي المشترك مع الآخرين للبحث عن اقصر الطرق التي يعيدنا بها الشيخ الى الحالة التي كنا عليها فى التاسع والعشرين من يونيو 1989. عدم فصل قادة الجنوب اسم بلدهم من اسم السودان يحمل بصيصا من أمل بعودة وحدة الشعب السوداني. وقديما قال الشاعر الطغرائي:أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل