13 سبتمبر 2025

تسجيل

التنافس الاقتصادي في عصر العولمة

23 يناير 2011

يحمل التنافس على تقاسم مناطق النفوذ في العصر الحديث سمات جديدة تشكل تحولا مهما لمستقبل العلاقات الدولية، ففي السابق احتمت الشركات العالمية بحكوماتها للدفاع عن مصالحها وتوسيع مناطق امتيازاتها الحيوية، وذلك في سياق المنافسة المحتدمة، وبالأخص في مناطق النفوذ لمصادر الثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط. وفي هذا السياق تشابكت المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، بحيث اكتسبت أنشطة العديد من الشركات طابعا وطنيا يرتبط بالمصالح الوطنية للبلدان التي تنتمي إليها هذه الشركات، وذلك بسبب الحجم الهائل للثروات التي تجنيها من استثماراتها الخارجية إضافة إلى عدد الوظائف وحجم الضرائب التي تدفعها لبلدانها الأصلية. الجديد في هذا الأمر، هو أن شوكة هذه الشركات بدأت تقوى في استغلال مكانتها الاقتصادية وبدأت التصرف، كدولة تملك العديد من الأوراق الخاصة بالقضايا الدولية التي تتجاوز شؤونها التجارية، مثلما حدث مؤخرا من خلال دور شركة "BP " البريطانية في إطلاق سراح المعتقل الليبي عبد الباسط المقراحي من السجون الأسكتلندية بسبب إدانته في تفجير طائرة "بان أميركان" فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية في عام 1988، مما أثار حنق وغضب الإدارة الأمريكية والتي قررت على ما يبدو معاقبة الشركة البريطانية وربما العمل على تصفيتها من خلال توريطها في التسرب النفطي في خليج المكسيك منتصف العام الماضي 2010 والذي تزداد الشكوك حول كونه عملا مفتعلا. لقد كاد هذا التسرب أن يودي بكيان الشركة البريطانية بسبب حجم التعويضات الهائل والمبالغ فيه والمقدر بأكثر من عشرين مليار دولار. ثم بعد تسويتها رفعت الولايات المتحدة مطالب أخرى تتعلق بالحق العام في التعويضات، مما أدى إلى تدخل الحكومة البريطانية والتي شمرت عن ساعدها للدفاع عن إحدى الشركات العريقة للتاج البريطاني. ولم يشفع لشركة "BP " كونها تنتمي لدولة حليفة للولايات المتحدة، إذ إن تصفيتها ستكون درسا قاسيا للشركات الأخرى، كما أنها سوف تفتح مجالات واسعة لشركات النفط الأمريكية لتعزيز نفوذها، وربما الاستيلاء على موجودات البريطانية والتي تملك امتيازات كبيرة ونفوذا متناميا في صناعة النفط العالمية، بما في ذلك الامتيازات التي حصلت عليها من ليبيا ضمن "صفقة المقراحي- لوكيربي". بدورها قررت الشركة البريطانية التصعيد في مواجهتها مع الإدارة الأمريكية، وذلك بعد دفعها للتعويضات المطلوبة واستقرار أوضاعها المالية واطمئنانها إلى مساندة الحكومة البريطانية، فاتجهت شرقا نحو العاصمة الروسية موسكو والتي كانت تراقب الوضع عن كثب، باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم من جهة، وعلى اعتبار أن الصراع يدور بين غريميها الحليفين، حيث رحب رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتن بالرئيس التنفيذي الجديد لشركة " BP " الأمريكي الجنسية والذي خلف الرئيس السابق البريطاني الجنسية، في تغيير لا يخلو من دلالات ذات معنى. ويشكل ذلك تحديا قويا للولايات المتحدة، حيث منحت روسيا الشركة البريطانية امتيازات مهمة في الجانب الروسي من القطب الشمالي، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا مباشرا لأمنها القومي وتجاوزا للخلافات التي لم تحسم حول تقاسم الثروات في القطب المتجمد. والحال أن الأمور لن تقف عند هذا الحد، بل سوف تشهد تطورات مهمة وخطيرة ضمن لعبة "كسر العظم" بين القوة العظمى المهيمنة في العالم وبين شركة عريقة تمثل درة التاج البريطاني العجوز. هذه واحدة من المستجدات في العلاقات الدولية في عصر العولمة والتي تكمن في الصراع بين الشركات ليس من خلال الدول المنضوية تحتها، وإنما صراع مباشر بين دولة عظمى وشركة عملاقة وقادرة على إدارة دفة هذا الصراع بإصرار وتحد يثير الإعجاب. وفي الوقت نفسه، فإن دخول شركة "bp " صناعة النفط الروسية بهذه القوة، سوف يعيد الكثير من التحالفات والتوازنات في سوق النفط العالمي، خصوصا وأن روسيا تعتبر مزودا رئيسيا لأوروبا من احتياجاتها من النفط والغاز. بعد تمرد الدول على القوة العظمى الأولى في العالم جاء دور الشركات العالمية لتعبر عن امتعاضها من أساليب التعالي الأمريكية ولترفع صوتها لتدافع عن مصالحها ومصالح بلدانها الحيوية ولتعلن مرة أخرى أن العالم يتغير وبسرعة نحو آفاق جديدة ونحو اصطفاف جديد لمراكز القوى في العلاقات الدولية.