17 سبتمبر 2025

تسجيل

فرنسا و الإسلام : ألف عام من سوء التفاهم

22 ديسمبر 2015

129 ضحية بريئة ليلة الجمعة 13/11 في باريس ينتمون إلى 22 جنسية من بينهم 10 مسلمين وهذه الأرقام وحدها تؤكد أن باريس كانت و ما تزال عاصمة التنوع وتعايش الأديان والأعراق و حاملة رسالة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أثمرته الثورة الفرنسية و تبنت بنوده منظمة الأمم المتحدة و تؤكد الإحصاءات أيضا أن العنف الأعمى الذي ضربها و الذي نندد به هو عنف لا غاية محددة له و لا يعاقب مذنبا و لا ينتقم من مجرم بل إنه من صنف الأعمال التي يقوم بها أصحابها وهم يجهلون أهدافها اللهم إلا إذا كانت تحركهم أياد لا نراها من وراء حجب لها غايات و مشاريع جهنمية قد ندركها بعد عقود من الزمن فالتاريخ الذي يتشكل أمامنا اليوم هو تاريخ اللحظة الآنية نعيشه و نتفاعل معه بردود فعل عاطفية غريزية سوف تترك المجال بعد انقضائها للمؤرخين يستقصون أسراره و يكشفون خفاياه. لكن هذا لا يعني أن جيلنا الذي يعاني أزمات الواقع الراهن المرير ليس له دور أو رسالة. فالأمانة تقتضي أن نستخلص بعض العبر مما حدث ويحدث لأن التاريخ كما عنون ابن خلدون (مقدمته) هو كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر. إنني أزعم أن الأقدار الإلهية ميزتني دون إرادتي عن أي من الزملاء بمنزلة المندمج الكامل في العلاقات الفرنسية الإسلامية فأنا عشت تبعات و أزمات هذه العلاقات الفرنسية الإسلامية في لحمي و دمي منذ أن كنت طالبا باحثا في جامعة السربون في السبعينات حيث اخترت موضوع رسالة دكتوراه الدولة بهذا العنوان (ظاهرة الإسلام السياسي الطارئة و كيف عالجها الإعلام الفرنسي) إلى منفاي الفرنسي في الثمانينات هروبا من القمع و الظلم في تونس إلى اللجوء السياسي الذي منحته لي الدولة الفرنسية في بداية التسعينات لتعطيني أنا و زوجتي وأولادي وثيقة سفر اللاجئ السياسي (لأني كنت مطلوبا في الإنتربول وبلا جواز وبلا جنسية و بلا وطن) وهذه الوثيقة مكتوب عليها في صفحتها الأولى: (تتعهد دولة فرنسا بحماية المضطهدين و الملاحَقين ضحايا مقاومة الاستبداد و الدفاع عن الحرية في أوطانهم الأصلية) أي أنني شخصيا مدين لفرنسا و دستورها بحمايتي و في الحقيقة حماية القيم و المبادئ التي تأسست عليها الدولة الفرنسية بعلمانيتها التي تعني في الأصل احترام كل الأديان و العقائد و حيادية الدولة عن كل انتماء ديني أو طائفي أو عرقي. هذه هي الروح التي حافظ عليها الرئيس شارل ديجول حين حرر بلاده من الاحتلال النازي الألماني و حين انخرط فيما سماه هو (إتجاه التاريخ) فساعد على تفكيك امبراطورية الاستعمار الفرنسي و استقلال شعوبنا العربية المسلمة منذ الخمسينات. و حين ترأس الجمهورية سنة 1958 سن سياسة تعرف بالسياسة العربية لفرنسا وهي عبارة عن دبلوماسية مستقلة عن المواقف الأمريكية و عن عقيدة حلف الناتو تحت شعار (سيادة فرنسا) فكان (ديجول) لا يتسامح مع إسرائيل حين تتبع نهج الغطرسة و الظلم. و يتذكر أبناء جيلي ذلك القرار الشهم بحظربيع السلاح للدولة العبرية بعد أن نعت (الجنرال ديغول) شعب إسرائيل بعد حرب الأيام الستة قائلا "إنه شعب يشعر بأنه نخبة الشعوب و يسمح لنفسه أن يتكبر وأن يتجبر!" و ثارت ثائرة إسرائيل و اعتبرت (ديجول) معاديا للسامية. و جاء وريث (ديجول) الرئيس شيراك و عارض غزو الأمريكان للعراق في 2003 و استمرت السياسة العربية لفرنسا. ثم جاء الاشتراكيون و بعدهم الرئيس ساركوزي الذي أعاد فرنسا لحلف الناتو و استعمل تقريبا نفس منطق اليمين المتطرف و لكن في الأثناء غابت الدبلوماسية الفرنسية عن قضية فلسطين و مات أبوعمار في باريس و سكتت الحكومة الفرنسية عن استبداد بعض الحكام العرب و تدخلت في ليبيا و صار ما صار من هزات و زلازل و تجمدت قضية الاحتلال الصهيوني للقدس و لفلسطين بل أصبحت هي المحرك الأصلي لغضب المسلمين و يأسهم من الحلول السلمية. وصدقت وزيرة خارجية السويد (مارجوت والستروم) حين صرحت الأسبوع الماضي بأن "عملية باريس تؤكد قنوط الشعوب المسلمة من حل عادل لقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين" و صدق رئيس حكومة فرنسا الأسبق (دومينيك دو فيلبان) حين قال بعد الاعتداء بأنه" ليس من الحكمة أن تتزعم فرنسا حربا صليبية جديدة". كما صدق السيد (مارك تريفديش) الرئيس السابق لمحكمة القطب القضائي الفرنسي ضد الإرهاب حين قال إن "الحروب التي شنها حلف الناتو على أفغانستان و العراق ضاعفت من أعداد بؤر الإرهاب في العالم من 5 إلى 29." و صدق أيضا الأكاديمي الفرنسي أكبر المتخصصين في التاريخ العربي الفرنسي (جون بيار فيليو) حين أكد في كتابه الصادر منذ أسابيع بعنوان (العرب و فرنسا :مصيرهم مصيرنا) "بأن المغامرة الاستعمارية و التبشيرية الفرنسية منذ إعلان البابا (يوربان الثاني) عن بداية الحروب الصليبية سنة1095 م من كاتدرائية (كريرمون فيران) بفرنسا إلى حملة نابليون على مصر و الشام سنة 1798 إلى احتلال الجزائر و استعمار تونس والمغرب و سوريا و لبنان ،هذه المغامرة ربطت مصيرنا بمصير العرب إلى الأبد بل إننا نحن الذين دفعناهم للتمترس وراء الإسلام لحماية هويتهم من الذوبان فينا.." إنني أستعرض هنا بعض ما يقوله الفرنسيون أنفسهم عن أزمة العلاقات العربية الفرنسية التي انتقلت منذ الجمعة 13 نوفمبر إلى أزمة غير مأمونة العواقب بين فرنسا و بين مسلميها (وعددهم 5 ملايين فرنسي مسلم) و السبب هو أن ردود الفعل السياسية المتسرعة أصبحت تهندس حسب أجندات الانتخابات البلدية و الجهوية القادمة في فرنسا و التسابق غير النزيه بين الأحزاب بالمزايدات في سن القوانين المضيقة على حياة المواطنين الفرنسيين من المسلمين وهو ما ينذر بعهد مقبل من تنامي العنصرية و صعود اليمين المتعصب للسلطة و بالتالي إلغاء الحكمة و التعقل لدى الجميع. و نحمد الله على وجود رجال رشداء لدى الفرنسيين جميعا ليجنبوا هذا المجتمع الديمقراطي مزالق الانقسام و الظلم و الوحشية.