29 أكتوبر 2025
تسجيلبعد الانقلاب البريطاني الهادئ الذي أبعد رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي عن السلطة بعد أن تشبث بها حتى النفس الأخير متحدياً الجميع بأنه (لن يعطيها وبأن لا أحد قادر على أخذها منه)! تنفس القوم الصعداء لمجيء البريطاني المهندس حيدر العبادي كخلف مقبول للسلف الطالح الفاشل الذي أدخل العراق في متاهات الفوضى بطائفيته الرثة وأساليبه الغبية في إدارة السلطة! (نوري المالكي)، ولكن تلك المفاجأة لم تكن سوى البداية في سلسلة مفاجآت جاءت ضمن سياق إعادة ترتيب الحلفاء الغربيين للبيت الداخلي العراقي وهي خطوة متأخرة للغاية جاءت بعد أن استفحل الورم السرطاني الإيراني في الجسد العراقي بفعل عمليات البناء التراكمي والتعبئة التي شنتها إيران للهيمنة على العراق ليس منذ الاحتلال الأمريكي فقط عام 2003 بل منذ عام 1980 حينما أعلن الإيرانيون بصراحة ومباشرة عن هدفهم الرئيسي بتصدير ثورتهم الطائفية والعمل على إعلان وتأسيس الجمهورية الإسلامية الشيعية في العراق وفقا لمبدأ ولاية الفقيه المختلف عليها شيعياً أصلاً، ورصدوا لذلك الهدف إمكانات الدولة الإيرانية ودخلوا الحرب مع العراق عام 1980 تحقيقا لذلك الهدف ودعموا الأحزاب والجماعات الطائفية كالدعوة ومنظمة العمل، وأسسوا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عام 1982 وبذلوا المستحيل عسكريا وسياسيا لتحقيق ولو جزء بسيط من أهدافهم دون جدوى بعد هزيمتهم المرة في الحرب واستسلامهم عام 1988 ولكن حماقة وغباء وصلف وعنجهية النظام العراقي السابق في غزوته الكويتية الحمقاء عام 1990 قد أسهمت في خلط الأوراق ودفعت بالنظام الإيراني لصدارة الموقف الإقليمي من جديد بعد غزو الكويت تحديدا وحيث ويالسخرية الأقدار لجأ نظام صدام وقتذاك لمحاولة التحالف مع عدوه القديم واللدود النظام الإيراني وتناسي بحار الدم من أجل ابتلاع الكويت في خطأ ستراتيجي مرعب كانت له تداعياته الرهيبة على أمن ومستقبل وسيادة العراق الذي دخل لسنوات طويلة في ظل حصار دولي رهيب أكل من لحمه الحي ومن إمكاناته الشيء الكثير وهشم مؤسسته العسكرية القوية وحول الدولة العراقية لكيان منخور رأينا كيفية انهياره السريع في ربيع عام 2003 والذي رسم خط النهاية للنظام الحزبي الذي حكم العراق لخمسة وثلاثين عاما ثم انتهى مخلفا الفراغ الكبير اجتماعيا وسياسيا وعسكريا، وهو فراغ عراقي مرعب لم يملأه أبداً الاحتلال الأمريكي بل عمل النظام الإيراني على الاستفادة الجمة والمباشرة منه من خلال تفعيل ماكينته التحالفية القديمة ومؤسساته الثورية والعسكرية التي بناها في السابق مستثمرا ومستغلا المتغيرات في الساحة الشيعية العراقية وظهور التيارات الجديدة كالصدريين مثلا الذين انقسموا بعد التدخل الإيراني لفروع وأقسام كان أبرزهم تيار (عصائب أهل الحق) الذي كان جزءاً من التيار الصدري وجيش المهدي تحديدا وهو اليوم يشكل القوة الإيرانية الضاربة في العراق والنواة التي يأمل الإيرانيون أن تكون البداية الحقيقية لتشكيل مؤسسة الحرس الثوري العراقي من خلال المشاركات الميدانية في معارك الحرب العراقية اليومية بأشكالها الطائفية والعشائرية، وخلال سنوات ما بعد الاحتلال تمكن الإيرانيون من السيطرة المباشرة على توجيه القوى السياسية المتحكمة بالسلطة ومارسوا ضغوطا كبيرة في ظل مراقبة أميركية للموقف بل ومشاركة في إدماج الجانب الإيراني في حلحلة بعض العراقيل التي واجهت إدارة الاحتلال الأمريكي، في أوائل تسعينيات القرن الماضي طرح ثعلب السياسة الإيرانية الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني تصوراته للدور الإقليمي الإيراني مؤكداً أنه (سيأتي اليوم الذي يتجول فيه الجندي الإيراني بحرية في الطريق الممتد بين كابل الأفغانية وبيروت على البحر المتوسط مرورا بعاصمتي الخلافة بغداد ودمشق)! وهو ما تحقق فعلا بعد عقد من السنين! يضاف لهم صنعاء أيضا؟ ولم يكن ذلك الإنجاز فعلاً إيرانياً خارقاً للعادة بل جاء نتيجة لعمل مركزي صبور ولجهود كبرى بذلها الإيرانيون وقطفوا ثمارها في فرض هيمنتهم الإقليمية التي باتت تتحكم اليوم في العراق وتفرض معطياتها على الوضع العراقي بل وتشارك المصالح الغربية في صياغة الترتيبات وصناعة القرار، وزيارة العبادي لطهران تأتي كمحصلة حقيقية لقوة الدور الإيراني في تفاصيل المشهد السياسي العراقي الساخن والمتجه نحو نهايات غامضة، ليس من السهل بالمرة التخلص من الهيمنة الإيرانية إلا عبر قرارات صعبة تمس قمة وشكل نظام الحكم في طهران! وهي مسألة معقدة تدخل ضمن عملية إدارة الصراع الداخلي هناك، صراع الإرادات الإقليمية ونتائجه هو وحده الذي سيغير من شكل المعادلة والدور الإيراني في العراق.