27 أكتوبر 2025
تسجيلكانت هند السويدي في حد ذاتها.. قصة قصيرة جداً.. استمرت في الحياة ما يقارب ستا وثلاثين سنة تزيد أو تنقص لا ضير طالما أنها انتهت فلا جدوى من معرفة عمرها الزمني.. المهم أنها مدة قصيرة جداً.. والمهم أيضاً أنها لن تختفي من ذاكرة قرّائها ولا محبيها ولا أهلها ولا أبنائها بل ولا أهل قطر الطيبين.. فهو شأنهم دائماً.. يذكرون " الطيبين " بكل خير ويحسنون سرد القصص عنهم وحولهم بعد رحيلهم.. لقد كانت كاتبة المقالات والقصص القصيرة.. الكاتبة القطرية هند السويدي.. هي نفسها بمثابة قصة قصيرة.. لم نستمتع بقراءة أحداثها الإنسانية الرائعة حتى انتهت سريعاً، فجاءت بخلاف سائر القصص القصيرة الأخرى، سردها الزمن إلينا بسرعة فائقة لدرجة أننا من فرط إعجابنا بهذه القصة أحببنا تكرار قراءتها مرّة أخرى.. ولكن هيهات أن يعود من ذهب للقاء ربّه.. ولكن تبقى ملامح تلك القصة الرائعة في نفوس المحيطين بها، فهند السويدي قبل أن تكون كاتبة كانت إنسانة فاضلة شريفة عفيفة ملتزمة بتعاليم دينها كعموم بنات قطر، تربّت على حبّ الله وحبّ رسوله وكل ما جاء من هذين النبعين من أنهار متدفقة بالخير والإحسان والإيمان، حتى أصبحت سيّدة كعموم سيّدات قطر اللاتي تربّين على خلق عظيم وأدب جمّ فأصبحت مدرسة للأخلاق لأبنائها وخير معين وأنيس لرفيق دربها.. زوجها، وخير ابنة لأمها وأبيها.. حتى فاض خيرها من تلك المنابع فغمرت بحسن أخلاقها ورقي أدبها وتعاملها سائر أهلها والناس أجمعين، حتى حظيت أنا بشيء يسير من ذلك الخير فإذا بي أشاهدها للمرة الأولى في أمسية للقصة القصيرة دعيت إليها أنا وهي وسط حضور زوجها ووالدتها – على ما أظن – فأكبرتها في عيني وأجللتها قدرا بحشمتها وأدبها الجمّ وبحفاوة زوجها وأهلها لها وكأنهم يساندونها ويحيطونها في كل لحظات حياتها ويزهون ويفخرون بها، فلم تظهر كبعض أديبات وكاتبات الخليج والعالم العربي عندما خُدعن بأن الطريق إلى الشهرة إنما يأتي بترك الحشمة والوقار، ولفظ الأدب والأخلاق أمام الرجال، وعلو الصوت والضحكات ووضع المساحيق والمنكرات، كلا.. لم تكن هند كذلك.. لقد كانت فتاة مصونة في شبابها، فصانها الله بأبنائها وزوجها الفاضل وبأسرتها وبمحبيها.. وكل أهل قطر بلاشك من محبيها. ورغم قلّة كتابات هند السويدي وإسهاماتها في فن المقالة والقصة القصيرة إلا أنها عندما أمسكت القلم وكتبت ما كتبت من نصوص سيفخر بها الأدب القطري والخليجي، إلا أنها كتبت نصوصاً تمتاز بروعتها وحسن وصفها وتمكّنها من تصوير ما يدور حولها بأسلوب رائع ممتع، وأزعم بأنها لتزاحم مهام حياتها الأسرية الجميلة لم تعط قلمها مزيداً من الوقت وإلا لكنّا أدركنا.. من هي هند السويدي حقاً.. فليس أقل من أن تكون كاتبة قصة قصيرة رائدة في العالم العربي والإسلامي، ولكنها مشيئة الله التي تعلو وتعرف أكثر مما نعرف، وإرادة الله التي اختارت لقاء ربها.. خيراً من الدنيا وما فيها، وأزعم بأنها كذلك لم تترك قلمها حيناً من الوقت إلا من أجل دورها الرائع بين أسرتها، فهنيئاً لهم تلك الأم والأخت والزوجة التي بارك الله في سني عمرها حتى أعطت كل ذي حق حقّه أو بقدر ما سمح له وقتها وأجلها في هذه الحياة الدنيا الفانية. ما أجمل أن يعيش الكاتب أو الأديب مع الله ومع هموم دينه وقضايا أمته ووطنه، فتحظى كتاباته بجزء من همومه وآلامه وآماله في كل ما يهمّه في دينه ودنياه، لا أن يطوّع موهبته وما أودعه الله فيه من إبداع في غير ما يراد منه، فكم من شاعر قد كتب عشرات بل مئات القصائد في محبوبته أو في مدح أمير أو ملك أو نحوه، ولم يكتب شيئاً يذكر دفاعاً فيه عن دينه أو عن رسوله أو أمته، ولم يسخّر موهبته في الوصف والصياغة والإقناع والتعبير في خدمة أي غاية تخدم دينه بشكل مباشر أو غير مباشر، وهكذا الحال بالنسبة لكتّاب المقالات والقصة ونحوهم، فمنهم من يكتب مئات المقالات والقصص في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والعاطفية.. ولكنه ينسى أن يؤطر ذلك كلّه بخدمة دينه ومرضاة ربّه، وفي المقابل هناك من جاهدوا بأقلامهم تماماً كما يجاهد المجاهد بسلاحه في الحروب ليعلي كلمة الله، وسخّروا أقلامهم لنصرة دينهم حتى قضوا نحبهم وهم يجاهدون لا يخشون في الله لومة لائم.. كأمثال الأديب والشاعر القطري الدكتور محمد قطبة الذي سخّر جُلّ شعره لقضية المسلمين الأولى.. فلسطين. لقد كتبت هند السويدي ضمن ما كتبت.. قصة قصيرة بعنوان (الموتى لا ينطقون أبداً) في وصف لحظات الاحتضار واستشعار ما بعد الموت، فكانت بحق أروع وأجمل ما قرأت في هذا المجال، لقد استطاعت هند بوصفها لتلك اللحظة الرهيبة أن تجعلنا نعيشها بتفاصيلها التي تعلمناها وقرأناها في أحاديث رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، فأجادت في وصفها فشحذت طاقتها وبراعة وصفها في مقاربة الصورة إلى أذهاننا، لا هند ولا نحن نعلم بماهية تلك اللحظة ولا بعظم شعورنا وقتها كيف سيكون، وإنما هي استشرافات للحظة قادمة إلى هند وإلينا أجمعين، وما تلك اللحظات التي عاشتها هند متخيّلة ما يحدث وقت نزول ملك الموت واللحظات الأولى في القبر تمهيداً لبدء القيامة الصغرى للإنسان.. ما تلك القصة وما ذلك الوصف إلا نتيجة فكر إيماني عميق وعقل متفكر في مصيره وقلب يغمره الإحساس بتأنيب المعصية ولو كانت كالنكتة أو النقطة السوداء في القلب، التي لا يقبل بها أبداً جسد الطاهرين والطاهرات من أهل الدنيا فيسارعوا لمحوها وطلب المغفرة من الله، والتوبة من تلك الصغائر ناهيك عن الكبائر، لأنهم أكبروا الله في نفوسهم فأصبحت صغائر غيرهم كبائر عندهم. ما أروعها من كتابات صاغتها يد هند السويدي في وصف هذه اللحظات التي سنذوقها جميعاً، ولكن مشاعرنا عندها أو حتى قبلها لن تجرؤ على وصفها ناهيك عن الإبداع في وصفها، إن دلّ ذلك فإنما يدل على إيمان عميق لدى هند بأن الله سيكون معها في تلك اللحظة، كما كانت معه في سائر أيام حياتها، ونحسبها والله حسيبها قد صدقت مع الله فصدّقها، فاطمأنت للقاء ربها كما وصفت هي في قصّتها وأثابها أن أراها منزلها في الجنة وأن أنامها في قبرها نوم قرير العين الهانئ.. وكما أحسنت الظن بالله (أنا عند حسن ظن عبدي بي).. فإنها قد أحسنت ظنّها بربّها في تلك اللحظة وندعو الله أن يحسن إليها كما قد أحسنت الظن به عز وجل، وأن يسكنها جنّات النعيم وأن يدخلها الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم آمين. - توفيّت هند السويدي في يوم الجمعة 18 من شوال لعام 1432 هجرية الموافق 16 من سبتمبر لعام 2011 ميلادية.