11 سبتمبر 2025

تسجيل

متاهة الأعراب (1)

22 يوليو 2015

يعيش العرب حاليا في متاهة معقدة وطويلة ومتشابكة، ولعل فقدان الشعور بالهوية هو أخطر مزالق هذه المتاهة، وهو شعور حول العرب إلى "أعراب"، وفصم الحالة النفسية والشعورية والمصلحية للأمة بددا، على قاعدة "إحنا شعب.. وإنتو شعب.. إلكو رب وإلنا رب"، وهي الأغنية الشهيرة التي تغنى بها مؤيدو السيسي.يبدو أن هذه القاعدة لا تقف عند حدود مصر لكنها تتعدى ذلك إلى الوطن العربي أو العالم العربي، الذي يعتبره البعض مجرد "عالم طوباوي خيالي" لا وجود له على أرض الواقع، وأنه لا يوجد ما يربط هؤلاء "الأعراب" سوى بعض البرامج التلفزيونية الفارغة من أي مضمون ثقافي عربي مثل "أراب غوت تالنت" و"ذي فويس" وهي أسماء لبرامج غربية أصلا جرى ترجمتها إلى العربية.هذه المتاهة تضع العرب أمام أسئلة وجودية حقيقية: هل نحن أمة عربية أم أمم عربية؟ هل هناك أمة عربية أصلا؟ ما هو مفهوم هذه الأمة وما هي الروابط التي تجمعها؟ هل هناك وطن عربي وهل هناك عالم عربي؟ هل هناك ثقافة عربية؟تبدو هذه الأسئلة استفزازية إلى درجة كبيرة، لأنها تنكأ جراحا عميقة، مما يؤدي إلى نزف دماء كثيرة، نحن نراها ليل نهار على امتداد الجغرافيا التي يسكن فيها العرب من المحيط إلى الخليج، لكنها أسئلة ضرورية لاكتشاف الذات ولمعرفة من نحن وإلى أين نسير، وكيف سنكون في مستقبل الأيام.المنطقة التي يسكنها العرب من المحيط إلى الخليج يطلق عليها "الشرق الأوسط"، وعليه فإن الواقعية السياسية العالمية وهي "واقعية غربية بامتياز" لا تعترف بوجود "عالم عربي أو وطن عربي" ولا حتى منطقة عربية، فسكان هذه المنطقة ينتسبون إلى جهة جغرافية تدعى "الشرق" ولتمييزه عن الصين والهند يطلق عليه "الأوسط" وعند جمع الكلمتين مع بعضهما البعض يصبح العالم العربي "الشرق الأوسط"، وهو مصطلح نحته ضابط في الجيش البريطاني الاستعماري بداية القرن الماضي، واستخدام لغايات عسكرية، ومع ذلك فإن الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي وضعا حدودا مختلفة لهذا "الشرق الأوسط"، أحيانا من أفغانستان إلى مصر، وأحيانا من إيران إلى المغرب، وللخروج من هذا المأزق في التعريف تم نحت مصطلح جديد وهو "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" الذي يضم كل المنطقة التي يسكنها العرب، مع إضافة أمم أخرى غير عربية مثل أفغانستان وإيران وأحيانا تركيا، لكيلا يكون للعرب منطقة خاصة بهم معترف بها كوحدة موضوعية يمكن أن يطلق عليها "العالم العربي أو الوطن العربي".هذا التكوين الجغرافي المستحدث "الشرق الأوسط" صنع لكي يستوعب "إسرائيل" في المكان، وهذا الكيان الإسرائيلي ليس عربيا، وبالتالي لا يجوز أن يطلق على المنطقة الموجود عليها "وطن عربي أو عالم" لأن معنى هذه التسمية هي نزع الشرعية المكانية عن هذا الكيان.ولتأكيد هذه الوقائع الجغرافية لنفي "العرب والعروبة" عن المكان، عملت القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، على تقسيم العالم العربي إلى وحدات "شرق أوسطية" بمخططات "سايكس – بيكو" التي رسمت حدودا بين هذه الوحدات الشرق أوسطية والتي أطلق عليها "دول" تم زرع كيان لليهود بينها بعد أن تم استعمار فلسطين وسلبها وتشريد سكانها، وإحلال اليهود فيها لتتحول من فلسطين إلى "إسرائيل"، وبهذا يكون المشروع الأوروبي المدعوم أمريكيا لاحقا قد اكتمل من الناحية العملية.لكن هذا المشروع الذي أدخل العرب في متاهة كبيرة، لم يقف عن حدود التقسيم الجغرافي بل تعداه إلى التقسيم الشعوري والنفسي، وخلق هويات فرعية هامشية على حساب الهوية العربية الأصلية، وصار الانتماء إلى الهويات الفرعية أهم من الانتماء إلى الهوية العربية الشاملة بمعناها الكبير الذي يحمل في طياته مفهوم "الأمة العربية"، وتحولت الأمة إلى شعوب والعرب إلى أعراب بعد أن تحولت الدولة إلى دول. ودخلت الأمة في حالة من البحث عن هويات جزئية تنتمي إلى الأقليات الدينية والعرقية، إلى درجة أن دولة عربية مركزية مثل العراق تحولت واقعيا إلى 3 دول، عربية شيعية في الجنوب وعربية سنية في الوسط وكردية في الشمال، وهكذا تحول العراق من أحد أعمدة الحضارة العربية الإسلامية إلى أشلاء تسمى دولا، ولو أنه لم يعلن عنها رسميا. وبدل البحث عن القواسم المشتركة لأبناء الأمة الواحدة والشعب الواحدة، بحث الجميع عن "الفواصم بدل القواسم"، بما يفصم الفكر والشعور والدين والثقافة والأرض. وأدخل الأمة في حالة من الاحتراب البيني العنيف الذي نعيشه واقعا هذه الأيام.