15 سبتمبر 2025
تسجيلمما لا بد أن يُعلم، أن البلاء من سنن الله الكونية في هذه الدنيا، التي قضاها في خلقه، ولا مردّ لقضائه، ومضى فيهم بها حكمه العدل، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لمشيئته، قال جل وعلا:(ولنبلونَّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)، والأمر في ذلك لله سبحانه (ألا له الخلق والأمر)، ومردُّه إلى حكمته البالغة، الخافية على كثيرٍ من خلقه، التي فيها كل الخير والرحمة والتوفيق لعباده المؤمنين، فجعل سبحانه البلاء أولاً: لإرادة الابتلاء والاختبار والتمحيص؛ ليميزَ قوي الإيمان من ضعيفه، الابتلاء الذي ما خلق الله الدنيا، وأوجد فيها الحياة في أولها بدايةً، وأوجد الموت في آخرها نهايةً، إلا لأجله، قال جل شأنه:(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور)، هذه هي الغاية التي تبينها لنا الآية الكريمة:(ولنبلونّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين ونَبْلوَ أخباركم).وجعل البلاء ثانياً: تكفيراً لسيئات عباده، إن كان ثم سيئات، ليَخِفَّ عليهم العقاب في الآخرة، والأحاديث النبوية شاهدة بهذا، قال المصطفى عليه الصلاة والسلام:(ما يصيب المؤمنَ من وصبٍ ولا نَصَب ولا سَقَم ولا حزن حتى الهم يَهُمه، إلا كفّر الله به من سيئاته)، وفي حديثٍ آخر:(لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللهَ تعالى وما عليه خطيئة)، أو لرفعهم في الآخرة درجات، ما كانوا ليبلغوها بأعمالهم الصالحات، ليعظم بذلك جزاؤهم، ففي الحديث الحسن:(إن أعظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السَّخَط)، حتى إن أهل العافية يوم القيامة يودون، حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض، كما جاء ذلك في الحديث، لما يرون من عظيم ثواب المبتلين.والإنسان لن يَنْعَم بعيشه، ويهدأَ رُوعه، حتى يرى أن الحكمة كلها فيما قضاه الله له، بل لن يبلغ درجة الإيمان الكامل، ومنزلة اليقين الصادق، حتى يرضى كل الرضا، عن قدر الله، ويعلم حق العلم، أن ما أصابه من قضاءٍ لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن جميع الخلق لا يملكون له شيئاً في ذلك، لا جلب نفعٍ ولا دفع ضُرٍ، ولا قطع خير ولا وصل شر، إلا أن يشاء الله تعالى. ثم إن الله عز وجل لرحمته وفضله، لم يدع عباده مع البلاء إلا بعد أن قدم لهم الوصية النافعة بل أقول العلاج الشافي، والدواء الناجع، عند حلول البلاء بهم، يأخذ بها ذَوُو العقل الحكيم والبصيرة النافذة، من الذين آمنوا، ولا يكون المؤمن إلا حكيماً بصيراً، حقيقٌ به ذلك، وهي الاستعانة بالصبر والصلاة، أنفع وأرجى ما يستعان به على تحمل البلايا والنوائب، هذا هو أمر الله، الذي وجّه إليه عباده المؤمنين في غير آية، وقد جاءت هذه الوصية قبل قوله تعالى في سورة البقرة:(ولنبلونكم...) الآية، وفي ذلك حكمة بالغة، أنْ ذكر سبحانه الوصية، التي بها يُواجَه البلاء ويُتصرّف فيه، قبل ذكر ضروب البلاءات، طمأنةً لقلب المؤمن، وربطاً لجأشه، وبياناً لما يجب عليه فعله أولاً، فقال تعالى منادياً الذين آمنوا:(يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين)، وفي آية أخرى مرشدةٍ إلى نفس التوجيه والنصح:(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، والضمير في إنها، عائدة على الصلاة، التي تكون كبيرةً أي ثقيلةً شاقة عسيرة، على غير الخاشعين، الخشوع الذي هو من الصلاة، بمنزلة الروح من الجسد، وانظر أنت أيّ قيمةٍ ومعنىً، لجسد بلا روح. ولنا أن نتفكر ونسأل لمَ قدّم الله الصبر على الصلاة؟والجواب: لأن العلاج لا بد أن يبدأ أولاً من داخل النفس، التي تتنازع أهواؤها وميولها، مع ما يعتلج فيها من مشاعرَ وعواطفَ متباينة، مؤثرة في كل ما يصدر من الإنسان، من أفعال وتصرفات وحركات وسلوكيات، أمّا أفكار الإنسان، وطريقة تفكيره، فهي متحكمة في تلك المشاعر والعواطف، فلن يجدي أيُّ عملٍ أو تغييرٍ ظاهري نفعاً، إلا إذا سبقه تغييرٌ نفسيٌ باطني، ثم يتبعه وينتج عنه تغييرٌ عمليٌ ظاهري، يكون استجابة لما حدث من تغيير نفسي، وهذا هو معنى قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم).فالصبر هو الذي عليه معوّل تغيير ما بالنفس، تغييراً يُصلح ويعالج أفكار الإنسان، فيتبدل من ثَمَّ ما بداخل النفس، ثم تأتي الصلاة كصورة عملية لذلك التغيير النفسي بالصبر، ولهذا السبب ذُكر قبل الصلاة، وكذلك الحال مع سائر الأعمال والطاعات الأخرى، أو غيرها من فِعال ونشاطات الحياة المختلفة، التي لن تغير شيئاً من فكر الإنسان ونفسيته، وتالياً من سلوكه وخُلقه وواقع حياته، ما لم يكن هناك تغيير باطنيّ نفسي، يكون نقطة ارتكاز وأساسٍ لحملة التغيير، وهو أمرٌ على منزلة كبرى من الأهمية، ليس هنا محل استقصائه.