11 سبتمبر 2025

تسجيل

الثالث والعشرون من يوليو

22 يوليو 2013

غدا الثلاثاء يوافق الثالث والعشرين من يوليو من عام 2013 أي مضى على ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 التي فجرها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر 61 عاما بالتمام والكمال جرت في نهر المحروسة مياه كثيرة من كل صوب وحدب تتدفق بحنو أحيانا وتفيض بقوة وعنف في أحيان أخرى مثلما هو حاصل الآن في أرجائها التي عكر صفو النهر دم أبناء الوطن يراق بأيدي أشقائهم في حالة ربما لم تشهدها خلال عقود النهضة الحديثة منذ أكثر ما يقرب من مائتي عام رغم وقوع حوادث هنا أو هناك لكنها لم ترق إلى حد الاحتراب ورفع السلاح عمدا مع سبق الإصرار ضد الخصوم على خلفيات سياسية أو دينية. إن المحروسة في حاجة إلى استعادة روح ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 التي حرص قادتها وفي المقدمة ناصر مفجرها ومهندسها الرئيسي وقائدها على مدى ثمانية عشر عاما على تكريسها كقواعد حكمت منطلقاتهم للتعامل مع معضلات الواقع والانتقال إلى بناء تجربة التحديث الثانية التي جعلت مصر واحدة من أهم أقطار الإقليم وصاحبة التأثير الأوسع في الإقليم. ولعل من أبرز هذه القواعد ما يلي : أولا : الانحياز إلى الشعب خاصة طبقاته الفقيرة والعمل على الارتقاء بمستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية فتم تطبيق سياسات تعليمية وتنموية نجحت بشكل واضح في خلق الطبقة المتوسطة التي شكلت- وما زالت –العمود الفقري الذي تتكئ عليه خطط التحديث والتنمية التي استندت بالدرجة الأولى على بعد العدالة الاجتماعية الذي سرعان ما بدأ في الذوبان مع بدء تطبيق الرئيس الراحل أنور السادات سياسات الانفتاح الاقتصادي في العام 1974 ثم أخذ في التلاشي خلال سنوات حكم مبارك خاصة خلال العقد الأخير الذي شهد صعودا غير طبيعي لتحالف السلطة مع الثروة متجليا ذلك في نشوء طبقة واسعة من رجال الأعمال المرتبطين بالحزب الحاكم والنخبة السياسية بل إن عددا كبيرا منهم تحول إلى دوائر صناعة القرار مما أدخل العدالة الاجتماعية في نفق مظلم وكان ذلك واحدا من أهم أسباب ثورة الخامس والعشرين من يناير . وكان من المأمول أن تتحرك النخبة الحاكمة التي أمسكت بمقاليد الأمور بعد هذه الثورة باتجاه تفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية خاصة مع وصول الإخوان المسلمين وقوى الإسلام السياسي الأخرى المتحالفة معها إلى السلطة بعد حصولهم على الأغلبية البرلمانية ثم رئاسة الجمهورية, غير أن ما جرى على الأرض كان يخاصم هذه المبدأ مما فاقم من أزمة الثقة في حكم الجماعة فانفجرت أحداث الثلاثين من يونيو 2013 التي شكلت تصحيحا لمسار ثورة يناير . ثانيا : صياغة نسق من استقلالية القرار الوطني شكل أساسا لبناء دولة تقوم على المواطنة والمساواة بصرف النظر عن التمايزات الطبقية أو الدينية أو العرقية وهو ما تحقق بدرجة مقبولة في أرض الواقع على نحو حرك مشاعر العزة الوطنية وجعلها تسود على ما عداها ودخلت المحروسة بقيادة ناصر معارك من أجل الحق والعدل وسعيا للتحرر من براثن الاستعمار سواء بالنسبة لها أو لغيرها من الأقطار العربية فتحررت شعوب المنطقة وارتفع منسوب القومية مع المحافظة على ثوابت الدين, بيد أن ذلك تبخر في السنوات التي أعقبت رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970 فتحولت المحروسة إلى مجرد دولة تابعة للإستراتيجية الأمريكية والدوران في فلك الغرب, وجاءت ثورة يناير لتعيد الأمل في استعادة هذه الاستقلالية ثم تعرضت للقفز عليها لاسيما في العام الأخير والذي لم تتغير فيه طبيعة علاقات المحروسة مع كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إن لم تشهد المزيد من التطور والتقارب الذي وصل إلى حد وصف رئيس الكيان شيمون بيريز بالصديق العزيز من قبل رئيس الجمهورية في برقية شهيرة منذ أقل من عام. ثالثا : تبني مشروع نهضوي وطني يقوم على تعظيم القاعدة الإنتاجية وتكثيف الاهتمام بالتصنيع بكل أنواعه خاصة الثقيل على نحو يلبي احتياجات المواطن والوطن مع تبني خط يعطي الأولوية للقطاع العام ليكون قائدا للاقتصاد مع منح الفرصة للقطاع الخاص الوطني للمشاركة في التنمية والاستفادة من عوائدها غير أن هذا المشروع تحت وطأة سياسة الباب المفتوح تحت ضغوط الولايات المتحدة والغرب عموما ثم سياسات الخصخصة وآليات السوق تقلص من حيث الشكل والمحتوى وباتت المحروسة عرضة لرصاصات بيع القطاع العام وطرد عمالته لصالح قوى استثمارية شرهة سواء من الداخل أو الخارج مما أسهم في خلق طبقة واحدة محدودة عددا متمددة تأثيرا تتحكم في المحروسة فوقع الخلل الذي قامت ثورة يوليو لتصحيحه. رابعا: رسخت ثورة يوليو لمفهوم الديمقراطية الاجتماعية عنوانا للمرحلة وهي نمط من أنماط الديمقراطية حصيلة تبنى المذهب الاشتراكي والذي كان سائدا بقوة في ذلك الوقت سعيا لتوفير القدرة والإرادة السياسية لحل مشكلات الجماهير وتجسد ذلك في مشروعات التأميم في ستينيات القرن الفائت وقبلها مشروع الإصلاح الزراعي الذي طبق بعد انبثاق الثورة بشهر ونصف تقريبا ثم مشروع السد العالي الذي جسد بعمق قدرة الإنسان المصري على قبول التحدي عندما تكون له قيادة واعية تمتلك رؤية للزمن الآتي إلى جانب بناء المدارس والوحدات الصحية والإسكان قليل التكلفة والتزام الدولة بتعيين خريجي الجامعات . صحيح وقعت أخطاء في التطبيق لكن الحصيلة كانت في النهاية انبثاق مشروع للتقدم والتحديث انحاز للناس وهو ما كان مفتقدا خلال العامين الفائتين حيث كان التركيز على بناء مفاهيم ميتافيزيقية تتعلق بالسلطة السياسية وتمكين القوى الجديدة التي تمثلت في تيار الإسلام السياسي منها وللأسف لم تنتبه هذه القوى إلى أن الإسلام في جوهره منحاز للفقراء ولمشروع التنمية الوطنية المستقلة ولو انتبهت لتمكنت هذه القوى من الاستحواذ على مشاعر أغلبية المصريين ببساطة وبدون اللجوء إلى أساليب الاستحواذ التي كانت ملموسة خلال الفترة الماضية فقادت البلاد إلى ما تتعرض له حاليا من تشظٍ وانقسام شديد الخطورة . بالطبع لا أدعو من خلال هذه المعطيات إلى إعادة إنتاج تجربة عبد الناصر رغم أن الناس في ميادين المحروسة ترفع صوره في كل مظاهرة منددة بمساوئ الحكام ومطالبة بالعدل والعدالة الاجتماعية لكني أطالب بقراءتها بصورة موضوعية واستخلاص ما يمكن الاستفادة منه في مرحلة بناء المحروسة الجديدة على أسس تحقق المواطنة والمساواة والعدالة والاستقلال الوطني وصياغة أنموذج للنهوض والتحديث والتنمية يرتكز على الانحياز للأغلبية وليس للأقلية الحاكمة فقط أيا كانت. إن جميع القوى في المحروسة مطالبة بهذه الوقفة في تجربة ثورة يوليو 1952 واستعادة جوهرها وروحها الحقيقية لأنها روح نبعت من الشعب المصري الذي مازال مسكونا بأشواقه للحرية والعدالة والديمقراطية الحقيقية فهل من مستجيب. السطر الأخير : يارب حافظ على دماء شعب المحروسة قوّم حكامها ومعارضيهم ابعد عنهم النوايا السيئة وادفعهم لحوار الحناجر بدلا من حوار الخناجر.