15 سبتمبر 2025
تسجيللن ينتفع من يتلو القرآن ويحفظه، انتفاعاً كبيراً، إذا اقتصر جُهده فقط على التلاوة والحفظ، دون تدبر وفهم المعاني القرآنية الكريمة، ولن يَفيدَ من كتاب الله العزيز الإفادة الحقيقية، إن لم يعمل بما جاء فيه، ويلتزم هَدْيه، ويسلك سُننه، وقد قال الله تعالى في معنى التدبر: (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)، وقال سبحانه في معنى العمل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).فليس المطلوب فقط هو ترتيل القرآن وتجويده، وتحسين الصوت به، والترنم بآياته وسوره، وليس مطلوباً من المسلم أن يحفظ القرآن ويختمه، لكي يُصرفَ كل الجهد، وتوجه كل الطاقة في سبيل ذلك، إنما الغاية الأعلى، والمطلب الأسمى هو فهم القرآن، ثم العمل وفق هذا الفهم.يحضرني في سياق هذه المعاني، حال بعض المشايخ، الذين لا حديث لهم، إن هم تكلموا عن القرآن أمام العامة، إلا عن ختمه، وما يروى في هذا الصدد عن بعض السلف من أخبار، وكيف أنه كان لهم ختمات عديدة في اليوم والليلة، وأنهم ختموا القرآن كذا وكذا مرة في اليوم، أو في العمر كافة، وهي أخبار وضعها الوعاظ والقُصاص في السابق، لغرض وعظ ونُصح أهل زمانهم، لا نظن أن لها أصلاً من الصحة، وإلا فليقولوا لنا كيف عُرف ذلك عمن قيل عنهم تلك الأخبار؟! أم أن الرجل من أولئك القوم، كان يحدث الناس بعمله الصالح، بما في ذلك من رياء وسمعة، معاذ الله، والمؤسف أن يأتي في هذا الزمن من يردد تلك الأخبار ويرويها على أنها حقيقة، ولا ندري ما وجه النفع والفائدة منها، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث: (لا يفقَهُ من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث).رحم الله ابن الأثير، صاحب كتاب المثل السائر، وهو من أكابر العلماء والأدباء، إذ قال: (كنت أقرأ في اليوم ختمة، ثم في الشهر ختمة، ثم في السنة، ثم ها أنا أقرأ في ختمة واحدة منذ كذا وكذا سنة، ولم أفرغ منها، وكلما أعدت النظر ظهر لي ما لم يكن ظهر من قبل). سبحان الله!! لا شك أن هذا من إعجاز القرآن البلاغي والبياني.نقول ذلك وفي ظننا - ونرجو ألا يصدق هذا الظن - أنه لو سئل بعض من يحفظ القرآن، ويعكف على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأكبر همه ختم القرآن، وهو في سبيل الختم يَهذُّ القرآن هذّاً، ولا تسمع له إلا هَذرَمةً، لو سئل من هم أصحاب اليمين؟ الذين أثنى الله عليهم، وبين جزاءهم، وما هي أعمالهم وأخلاقهم؟ لتلكأ وأبطأ بالجواب، ولَربما – لا سمح الله - فَغَر فاه، وقال: هاه هاه، لا أدري.جاء ذكر أصحاب اليمين في كتاب الله تعالى، في سورة البلد، عند قوله عزَّ وجل: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ).تأمل - يرعاك الله- أعمالهم تلك وأخلاقهم، التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل اليُمن والبركة في الجنة، فهم يعتقون الرقاب، ويحرّرون عباد الله مما بهم من همٍّ وضيق، وذل وإعسار، كأنْ يقضوا عن المدينين ديونهم، ويضعوا عن الغارمين غُرمهم، ويفرجوا عن المهمومين همهم، وينفسوا عن المكروبين كربهم.