13 سبتمبر 2025
تسجيليرجع البعض ظاهرة العولمة وما تبعها من قوانين وأنظمة تقيد حركة السوق بالنظام الليبرالي إلى تقدم التقنية الحديثة وتطور وسائل الاتصال الكونية والثورة المعلوماتية الهائلة في عصرنا الراهن، وأن لها امتدادها المكاني والزماني.. أن هذه الظاهرة "العولمة" قديمة قدم التاريخ نفسه، وأن الفينيقيين قبل " 3000" سنة قد أبحروا غرب البحر المتوسط، وأقاموا مستعمرات تجارية في شمال إفريقيا وإسبانيا وإن اختلفت الوسائل والقدرات في ذلك الوقت عن هذا العصر الراهن.وإن الفيلسوف اليوناني أرسطو شغله الوجود الإنساني والكون كظواهر كلية في سياق بحثه عن سعادة الإنسان على الأرض التي ننظر إليها ككتلة إجمالية واحدة مكونة لمركز الكون.ولدى فلاسفة العصر الصناعي الأوروبيين نجد قيمة البحث عن سعادة الإنسان بصرف النظر عن عرقه وجنسيته وجغرافية وجوده أحد محاور نشاطهم الفلسفي.. ومن أبرز هؤلاء المشاهير الفلاسفة الألمان من أمثال (كانت وهيردر.. وغيرهم).. ففي بداية الحروب البونابارتية أطلق "كانت" مقولته الشهيرة "من أجل سلام أبدي" في عام .. وفي نفس الوقت تقريبا ( 1793-1797) كتب الفيلسوف الألماني هيردر رسائله الشهيرة التي حملت عنوان "من أجل سمو الإنسانية". وفي عام 1792 كان الشاعر والأديب الألماني شيلر سعيدا بمواطنة الشرف التي منحت له من قبل الجمهورية الفرنسية الأولى على خلفية تعاطفه مع أفكار الثورة الفرنسية على الرغم من العداء المستحكم بين الإمارات الألمانية في ذلك الوقت والجمهورية الفرنسية الوليدة .ويؤكد هؤلاء، أن أي معاينة للتاريخ تظهر أن ما نحن بصدده الآن من نقاش حول العولمة هو نقاش لا يعدم نماذج مشابهة له في الماضي.. فالقرن الثامن عشر كان قرن العولمة الفرنسية، وقد أحدث تغيرات هامة في الفكر والجغرافيا العالمية، أما القرن التاسع عشر فكان قرن العولمة الإنجليزية التي سادت العالم، أما القرن العشرين فإنه قرن العولمة الأمريكية بدون منازع .لكن البعض يعترض على مقولة تاريخية العولمة وجذورها الضاربة في أعماق التاريـخ، ويرى أن الأفكار المثالية والطوباوية التي قالها الفلاسفة والمصلحون تتقاطع مع طبيعة العولمة المعاصرة التي لا تلتفت كثيرا إلى العواطف والتسامح، وتضرب بعرض الحائط التعددية الثقافية والخصوصية الذاتية، ولذلك فإن مقولات سعادة الإنسان التي يطرحها المصلحون والمفكرون والفلاسفة ليس لها موطئ قدم في مصطلح "العولمة" التي لا تعترف بهذه النظرة وتعتبرها من قبيل التوهمات والأفكار الطوباوية.أما مقولة أن القرن الثامن عشر كان قرن العولمة الفرنسية والتاسع عشر قرن العولمة الإنجليزية والقرن الحالي قرن العولمة الأمريكية، فإن هذه المقارنة تنقصها المصداقية والواقعية في قراءة التاريخ نفسه بغض النظر عن صعود الدول وسقوطها.وربما قصد منها تبرير حتمية العولمة وآثارها السيئة، ذلك أن صعود الدول وتراجعها لا دخل لها بمفهوم العولمة الحالي التي تفرض نموذجــها الأحادي قسرا.والذين يهللون لظاهرة العولمة- كما يقول د. جلال أمين ـ "يقعون في رأي في خطأ فادح، فهم يفهمون العولمة أو يحاولون تصويرها على أنها تنطوي على عملية "تحرر" من ربقة الدولة القومية إلى أفق الإنسانية الواسع، تحرر من نظام التخطيط الآمر الثقيل إلى نظام السوق الحرة، تحرر من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعا، تحرر من التعصب لأيديولوجيا معينة إلى الانفتاح على مختلف الأفكار من دون أي تعصب وتشنج ، تحرر من كل صور اللاعقلانية الناتجة من التحيز المسبق لأمة أو دين أو أيديولوجيا بعينها إلى عقلانية العلم وحياد التقانة". ويتندر د. جلال أمين على تسويغ مفهوم العولمة وتصويرها بما لا يتفق مع طغيان تطبيقها وسلبيات آثارها "كم يكون العالم جميلا لو كان هذا كله صحيحا.. لكن الحقيقة للأسف غير ذلك لعلها عكس هذا بالضبط.. وإنما يساعد على تصديق كل هذه الأشياء، وتدعيم هذا الخطأ الفادح.وهذا الطرح الذي يهلل له البعض وتصوير العولمة بأنها جنة العصر وأنها البديل النهائي لكل الأفكار والأيدولوجيا والصيغ الحضارية قصد منه "خلق شعور لدى أفراد مجتمعات الجنوب بالدونية المرتبطة بثقافاتهم، يراد منه تصديع ثقة الفرد بذاته وتهيئته للقبول بما يفرض عليه.. وهناك نوعان من السلوك يضطر الفرد إلى اتباعهما، فإما أن يستسلم بحكم الضائقة الاقتصادية، مما يعني استيعاب الأنا من قبل الآخر، وبذلك تكون الأنا جزءاً من الآخر لتماثلها معه وتقاسمها الأسس الفكرية نفسها، وهذه العملية هي بمثابة إعادة استعمار الأنا من طريق استلاب الآخر. لكن البعض يختلف مع هؤلاء المتشائمين ويتهمهم بالعجز والفشل في مناهضتهم لظاهرة العولمة حيث يخلقون المتاريس لكل جديد ثم يسبقهم الحدث "فلا يجدي نفعا اختزال هذه الظاهرة الحضارية وهذه المنجزات التقنية إلى شكل جديد من أشكال النهب والهيمنة، بذلك تجرفنا العولمة ونتحول إلى جيب تاريخي يقع على هامشها، بقدر ما نتحدث عنها بلغة نضالية خلقية فقدت قدراتها على الفهم والتفسير.. ومن يتخلى عن مهمة الفهم لا يحصد سوى العماء.قد يكون دفاع د.علي حرب وغيره من الباحثين عن العولمة له من المسوغات والتبريرات الواقعية وخاصة أن العالم العربي لا يسير بالوتيرة التي يمكن التعويل عليها لاستيعاب الطفرة الكبيرة والنظم المعرفية والعلمية المتسارعة والتي ستطرحها العولمة بشروطها ! وخاصة في الجانب الاقتصادي الذي تعتمد عليه في سياستها وإستراتيجيتها المقبلة.. لكن هل الغرب كله متفق على أهمية نجاح العولمة وإيجابية تطبيقاتها؟ لا يوجد مثل هذا التفاؤل في الغرب نفسه، فقد برزت العولمة أول ما برزت في المجال الاقتصـادي كنزعـة جديـدة ومخططــة، لتعميم اقتصاديات السوق بصورة عالمية وكنتيجة طبيعية لانتهاء الحرب الباردة وسقوط الفكرة الاقتصادية المضادة للرأسمالية الاشتراكية المتمثلة في الاتحاد السوفيتي و المعسكر الشيوعي ، وسقوط الحواجز والحدود بفضل التطور الهائل في مجالات نظم الاتصال و المعلومات الفضائية والإعلامية.. وما تنطوي عليه من مضاميــن ورؤى اقتصادية وسياسية و تكنولوجية جديدة فرضت نفسها عالميــا.. وأصبحت واقعا لا مفر من رفض التعامل معه.بدأت فكرة العولمة الاقتصادية في الظهور كإستراتيجية جديدة للغرب عندما الولايات المتحدة في النصف الثاني من الثمانينات، إلى نتيجة مفادها أنها ستحقق مكاسب أكثر لاقتصادها المتغير لو أنها فرضت على حلفائها وشركائها و توابعها وشركائها وتوابعها على امتداد العالم سياسة حرية التجارة فإن ذلك سوف يمثل تطبيقا نموذجيا لإستراتيجية ( فتح الأسواق )كإستراتيجية مفضلة لدى الرأسمالية الكبرى عبر التاريخ المعاصر .لكن فرنسا وبعض الأوروبيين اعترضوا على مفهوم الاندماج الكلي في فتح الأسواق وسيادة النموذج الأمريكي وذوبان الوطني في العالمي، وتعميق الهيمنة الاقتصادية والسياسية من خلال الأفلام السمعية البصرية و تكريس القيم الاستهلاكية الأمريكية على حساب لغات أوروبية عريقة كالفرنسية والإيطالية.ويعرب الأوروبيون عن قلقهم من تمزيق التعددية الثقافية مقابل هيمنة ثقافة الاستهلاك وتسييد الطرف الأقوى اقتصاديا و تهميش دور الطرف الأضعف "حيث يخشى أن تؤدي الوحدة الاقتصادية و السياسية بين دولها إلى إلغاء دور الدولة الوطنية في حفظ و إخصاب الثقافة الوطنية المؤسسة لهويتها كـدول من نـوع الدولــة - الأمة، الأمر الذي يهدد بانبعاث الأثنية والطائفية على مستوى القارة الأوروبية ككل وهي كثيرة متنوعة، مما سيجعل أوروبا تتحول من مجموعة من الدول الوطنية المعتزة بثقافتها المتمسكة بهويتها إلى فسيفساء من الأثنيات والطوائف والثقافات الفرعية لا يجمعها سوى سوق اقتصادية مشتركة.. وهذا ما جعل العديد من دول العالم تتوجس من هذه الظاهرة وتعتبرها خطرا جديدا على اقتصادياتها وثقافتها، وفكرها ومنها دول أوروبية مثل فرنسا.. فهل تنجح في فرض هذا النموذج على دول العالم قسرا ؟!